أشعار الجواهري
قصيدة سبيل الجماهير
يقول الشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري:
لو أنَّ مقاليدَ الجَماهير في يدي
- سَلَكتُ بأوطاني سبيلَ التمرُّدِ
إذن عَلِمَتْ أنْ لا حياةَ لأمّةٍ
- تُحاولُ أن تَحيا بغير التجدُّد
لوِ الأمرُ في كَفِّي لجهَّزتُ قوّةً
- تُعوِّدُ هذا الشعبَ ما لم يُعوَّد
لو الأمرُ في كفِّي لأعلنتُ ثورةً
- على كلِّ هدّام بألفَي مشيِّد
على كُلِّ رجعيٍّ بألفَي منُاهضٍ
- يُرى اليوم مستاءً فيبكي على الغد
ولكننَّي أسعى بِرجلٍ مَؤوفةٍ
- ويا ربَّما أسطو ولكنْ بلا يَد
وحوليَ برّامونَ مَيْناً وكِذْبَةً
- متى تَختَبرهُم لا تَرى غيرَ قُعدد
لعمرُكَ ما التجديدُ في أن يرى الفَتى
- يَروحُ كما يَهوَى خليعاً ويغتَذي
ولكنَّه بالفكر حُرّاً تزَينهُ
- تَجاريبُ مثل الكوكَبِ المُتَوقِّد
مشَتْ إذ نضَتْ ثَوبَ الجُمود مواطنٌ
- رأت طَرْحَهُ حَتماً فلم تَتردَّد
وقَرَّتْ على ضَيْم بلادي تسومُها
- من الخَسف ما شاءَتْ يدُ المتعبِّد
فيا لك من شعبٍ بَطيئاً لخيرِهِ
- مَشَى وحثيثاً للعَمَى والتبلُّد
متى يُدْعَ للإصلاح يحرِنْ جِماحُه
- وإن قيد في حبل الدَجالةِ يَنْقد
زُرِ الساحةَ الغَبراء من كل منزلٍ
- تجد ما يثير الهَمَّ من كلِّ مَرقد
تجد وَكرَ أوهامٍ وملقَى خُرافةٍ
- وشَتّى شُجونٍ تَنتهي حيثُ تَبتدي
هم استسلموا فاستعبَدتْهم عوائدٌ
- مَشت بِهمُ في الناس مشيَ المقيَّد
لعمْركَ في الشعب افتقارٌ لنهضةٍ
- تُهيِّجُ منه كل اشأمَ أربد
فإمّا حياةٌ حرّةٌ مستقيمةٌ
- تَليقُ بِشَعبٍ ذي كيان وسؤدُد
وإمّا مماتٌ ينتهَي الجهدُ عِندَهُ
- فتُعذَر فاختر أيَّ ثَوْبيَك ترتدي
وإلّا فلا يُرجى نهوضٌ لأمّةٍ
- تقوم على هذا الأساس المهدَّد
وماذا تُرَجِّي من بلاد بشعرة
- تُقاد وشَعب بالمضلِِّّين يَهتدى
أقول لقَومٍ يجِذبون وراءهُم
- مساكين أمثالِ البَعير المعبَّد
أقاموا على الأنفاس يحتكرونها
- فأيَّ سبيلٍ يَسلُكِ المرءُ يُطردَ
وما منهمُ إلا الذي إنْ صَفَتْ له
- لَياليه يَبْطر أو تُكَدِّرْ يُعربِد
دَعوا الشعبَ للإصلاح يأخذْ طريقَه
- ولا تَقِفوا للمصلحينَ بمَرْصَد
ولا تَزرعوا أشواككم في طريقه
- تعوقونه مَن يزرعِ الشوكَ يَحصِد
أكلَّ الذي يشكُو النبيُّ محمدٌّ
- تُحلُونَه باسم النبيِّ محمّد
وما هكذا كان الكتابُ منزَّلاً
- ولا هكذا قالت شريعةُ لَموعد
إذا صِحتُ قلتُم لم يَحنِ بعد مَوعد
- تُريدون إشباعَ البُطون لمَوعد
هدايتَك اللهمَّ للشعب حائراً
- أعِنْ خُطوات الناهضين وسدِّد
نبا بلساني أن يجامِلَ أنني
- أراني وإنْ جاملتُ غير مُخَلَّد
وهب أنني أخنَتْ عليَّ صراحتي
- فهل عيشُ من داجَي يكون لسرمَد
فلستُ ولو أنَّ النجومَ قلائدي
- أطاوع كالأعمى يمين مقلدي
ولا قائلٌ أصبحت منكم وقد أرى
- غوايَتكم أو أنني غير مهتدي
ولكنني إن أبصِرِ الرشد أءتمرْ
- به ومتى ما أحرز الغي أبعد
وهل أنا إلا شاعر يرتجونَه
- لنصرة حقٍ أو للطمةِ معتدي
فمالي عمداً استضيمُ مواهبِي
- وأورِدُ نفساً حُرَّةً شرَ مَورد
وعندي لسانٌ لم يُخِّني بمحفِلٍ
- كما سَيْف عمروٍ لم يَخنُه بمشْهَد
قصيدة إلى المناضلين
يقول محمد مهدي الجواهري:
أطِلّوا كما اتَّقدَ الكوكبُ
- يُنوِّر ما خَبطَ الغَيْهَبُ
وسيروا وإن بَعُدَت غايةٌ
- وشُقّوا الطريقَ ولا تَتْعَبُوا
ومُدّوا سَواعدَكم إنها
- معينٌ من الجُهد لا ينضُب
وهاتُوا قلوبَكُمُ أُفرِغِتْ
- على نَجدةِ الحَقِّ أو فاذْهَبوا
فما إن يَليقُ بمجد النضالِ
- ضعيفٌ على نَصرِه يُغصَب
وإنَّ غداً باسماً يُجتَلَى
- بشِقِّ النفوس ولا يُوهَب
وإني وإن كنتُ صِنْوَ الرجاء
- في حومةِ اليأسِ لا أُغْلَب
أواعدكم من "غَدٍ" صادقاً
- ويُسرِفُ في الوعد من يَكذب
أمامَكُمُ مُوعِرٌ مُلغَمٌ
- بشتّى المخاوفِ مُستَصْعَب
يَسُدُّ مداخلَه أرقمٌ
- وتحمي مسالِكَهُ أذؤب
وسوف تَضيقُ بِكُم دُوركُم
- وسُوحُ السجون بكم تَرحُب
فقولوا لمن ظن أنّ الكفاح
- غَلةُ مزرعةٍ تكذِب
وقولوا لمن ظنَ أنَّ الجموعَ
- مطايا تُسَخَّرُ يا "ثعلب"
تُريدون أنْ تستقيمَ الأمورُ
- وأن يخلُفَ "الأخبثَ" الأطيب
وإن تجمَعُوا الشَمْل من أُمَّةٍ
- يفرِّقُها "الجَدُّ" و"المذهب"
وأن يأكلَ الثَمرَ الزارعونَ
- وأن يأخُذَ الأرضَ من يدأب
تريدون أن يعرِفَ الكادحونَ
- من العيش ما عنهُم يُحجَب
فلا تحسَبوا أنّكم في الجهاد
- هواةٌ يضمُّهُمُ ملعَب
ولا تحسَبوا أنّ مُستثمِراً
- ظلوماً لمصرعِه يَطرب
ولا تحسَبوا أن مستعمِراً
- يُثارُ عليه ولا يغضَب
فلا تهِنوا إنَّ هَذي الأكفَّ
- تُملي على الدَهر ما يكتب
قصيدة كل ما في الكون حب وجمال
يقول الشاعر محمد مهدي الجواهري:
كلُّ ما في الكون حب وجمالُ
- بتجليك وإن عز المنالُ
بسط النور فكم ثائر بحر
- هادئاً بات وكم ماجت رمال
ورياض ضاحَكَ الزهرَ بها
- ثغرُك الصافي وناجاها الخيال
وسهول كاد يعرو هَضْبَها
- نزقٌ من صبوة لولا الجلال
ما لمن يهوى جمالًا زائلًا
- وعلى البدر جمال ما يُزال
لا عدمِناك مروجـاً للهوى
- جدَة فيها وللدهر اقتبال
عيشُنا غض وميدان الصبا
- فيه مجرىً للتصابي ومجال
يا أحباي وكم من عثرة
- سلفت ما بالُ هذي لا تقال
علَّلونا بوعـود منكـم
- ربما قد علل الظمآنَ آل
وعدوني بسوى القرب فقد
- شفَّني الهجرانُ منكم والوصال
لا أمَّل العيش ما شئتم فكونوا
- لسوى حبكم يحلو الملال
أمن العدل وما جُزْتُ الصبا
- ومداه يألف الشيبَ القذال
إنها أنفُسُ لم تخلق سدى
- ورقيقات قلوب لا جبال
أشتكى منكم وأشكو لكمُ
- إنَّ دائي في هواكم لعُضال
فعلى الرفق كفاني في الهوى
- ما أُلاقي وكفاكم ذا المِطال
الذنبٍ تصطلي حَرَّ الجْوى
- مهجٌ كانت لها فيكم ظِلال
أرتجيها صفوة منكم وأن
- زَعَموها بغيةً ليست تنال
إنما أغرى زماني بكم
- نِعَمٌ طابت وأيام طِوال
لا أذُم الدهر هذي سُنة
- للهنا حال وللأحزان حال
قد حثثناها مطايا صبوة
- لكُمُ أوشك يعروها الكلال
ورجعنا منكمُ خِلواً ولو
- أكلت منهن آمال هزال
لا تقولوا هجرُنا عن علة
- ربما سَرَّ حسوداً ما يقال
أنا من جربتموه ذلك الطاهرُ
- الحبِ إذا شِينت خِصـال
شيم هذَّبْنَ طبعي في الهوى
- مثلَّما يجلو من السيف الصِّقال
أيها الناعمُ في لذاته
- لذةُ النفس على الروح وَبال
شهوة غرَّتك فانقدْتَ لها
- ومُنى المرء شعور وكمال
قصيدة لبنان في العراق
يقول الجواهري:
أرض العراق سعت لها لبنانُ
- فتصافح الإنجيل والقرآنُ
وتطلَّعت لكَ دجلةٌ فتضاربت
- فكأنما بعبُابها الهَيَمان
أأمين أن سُرَّ العراقُ فبعدما
- أبكى ربوعَ كولمبسَ الهجران
لك بالعراق عن الشآم تصبر
- وبأهله عن أهلها سُلوان
لو تستطيع دنت إليك مُدّلةًً
- فتزودت من رُدنك الأردان
وحِّد بدعوتك القبائل إنه
- ألقى إليك زمامَه التِّبيان
كيف التآلفُ والقلوبُ مواقد
- تغلي بها الأحقادُ والأضغان
أنِر العُقول من الجهالة يستبنْ
- وضحَ السبيلِ ويهتدي الحيران
وأجهز بحد رهيف حدٍ لمَ ينُبْ
- لك عن شَباه مهند وسنان
خضعت لعنوته الطغاةُ فأقسمت
- أن ليس تعدو حُكْمَه التيجان
نار تُذيب النار وهي يراعةٌ
- عضبٌ يفُل العضبَ وهو لسان
أنّي يقصِر بالعِنان إذا انبرى
- وهو الجموح وفكرك الميدان
زِدنا بمنطقك الوجيز صبابةٍ
- فهو السَّلاف وكلُّنا نشوان
ما كل حي قائل ما قلته
- لكنْ أمدَّ بيانك الرحمن
الشرق مهتز بنطقك معجب
- والغرب أنت بجوه مِرنان
والقول ما نَّمقْتَ والشعر الذي
- يوحي إليك فصاحةٌ وبيان
أنا خصم كل منافق لم يَنْهَني
- حَذرٌ ولم يقعُد بي الكِتمان
عابوا الصراحة منك لما استعظموا
- أن يستوي الأسرار والإعلان
يا شعب خذ بيد الشباب فإنهم
- لك عند كل كريهة أعوان
واعرِف حقوق المصلحين فإنما
- بهم الحقوق الضائعات تصان
واعطف لريحان النُّفوس ورَوْحها
- فله عليك تعطف وحنان
واسِ الضعيف يكن ليومك أسوة
- وكذا الشُعوب كما تدين تدان
يا شرق يا مهد النوابغ شدّما
- ساوى مكانٌ بينهم وزمان
للناس كان وإن أبت لبنان
- فأمين ليس لها ولا جبران
قصيدة لم يبقَ عندي ما يبتزه الألم
يقول الشاعر الجواهري:
لم يبقَ عنديَ ما يبتزّهُ الألمُ
- حسبي من الموحشاتِ الهمُّ والهرمُ
لم يبقَ عندي كفاءَ الحادثاتِ أسى
- ولا كفاءَ جراحاتٍ تضجُّ دمُ
وحينَ تطغَى على الحرَّان جمرتُهُ
- فالصمتُ أفضلُ ما يُطوَى عليهِ فمُ
وصابرينَ على البلوى يراودهُمْ
- في أن تضمَّهُمُ أوطانُهم حلمُ
تذكَّروا عهدَ بلفورٍ فقلتُ لهمْ
- ما تستجِدُّونَهُ عهدِي بهِ القِدَمُ
مِن قَبلِ سِتِّينَ من خَزيانِ مَولِدِهِ
- أقمتُ مأتمَ أرضٍ قُدسُها حَرَمُ
لا يَغضَبَنْ سادةٌ تُخشى معرَّتُهُم
- بل المعرَّةُ في أنْ يَغضَبَ الخَدَمُ
فلستُ أخلِطُ ما يَجنيهِ مِنْ تُهَمٍ
- شعبٌ برئٌ وما يَأتيهِ مُتَّهَمُ
وإنَّما أنا من أوجاعِ مجتمع
- جرحٌ، ومن جَذوَاتٍ عِندَهُ ضَرَمُ
كم تَنقُضُونَ بأعذارٍ مُثَرثَرَةٍ
- ما تُبرِمونَ، ولا يعنيكمُ البَرَمُ
شأنَ الذليلِ وقد دِيست كرامَتُهُ
- وقلَّما عِندَهُ أن يَكثُرَ الكَلِمُ
دمشقُ يا أمَّةً حَطَّتْ بها أُممُ
- مِنها إذا نُكَّسَتْ أعلامُها عَلَمُ
كأنَّما هيَ عنْ أوزارِ جِيرَتِها
- كفَّارَةٌ، وعنِ الساعِي بِها نَدَمُ
يا هِمَّةً باسمِها تُسْتَنهِضُ الهِمَمُ
- يا قِمَّةً تتهاوَى عِندَها القِمَمُ
دمشقُ، إنَّ وجوهَ الغدرِ سافِرَةً
- أَخَفُّ مِنها شُروراً وهيَ تَلتَثِمُ
إنَّ النفاقَ حفيرٌ لا تلُوحُ بهِ
- خُطَى المنافقِ إلَّا يومَ يَرتَطِمُ
تَأَلَّبَ الشرُّ مسعوراً بهِ نَهَمٌ
- إلى العضاضِ، وإن أودَى بهِ النَّهَمُ
ودَوَّخَ الصمتُ مِهذاراً يُدَاخُ بهِ
- ودبَّ في السمعِ مِن سَمَّاعةٍ صَمَمُ
وارتدَّ عنكِ وأحلافٌ لهُ خَدَمٌ
- مُغْبَرَّ وجهٍ على خَيشُومِهِ رَغَمُ
وكم تَلَوَّحَ وجهٌ مِثلَهُ قذرٌ
- ولَّى بأنظفِ كفٍّ منكِ يُلتَطَمُ
وأنتَ يا أسَدَ الغابِ الَّذي حلَفَتْ
- بهِ الرجولةُ أنْ تَستَأسِدَ الأُزَمُ
يا أيُّها الجبلُ الرَّاسَي بهِ أَنَفٌ
- منَ الرّضوخِ ومِن أن يَنحنِي شَمَمُ
ثَبِّتْ لها قَدَمَاً تَرهبكَ مَذْئَبَةٌ
- ما إِن تُوَطَّى لها في غَابةٍ قَدَمُ
يا حافظَ العهدِ أعطَاهُ مَواثِقَهُ
- ما عاشَ أنَّ عُراهُ ليسَ تَنفَصِمُ
أَعطتكَ مَوثِقهَا الدنيا وأُسرَتُها
- أنَّ المُفاداةَ جيشٌ ليسَ يَنهزِمُ
قصيدة طنجة
يقول الجواهري متغنياً بمدينة طنجة :
لله درُّكِ "طنجُ" من وطنٍ
- وقفَ الدلالُ عليه والغَنجُ
الليلُ عن جفنيكِ منطلِق
- والصبحُ عن نهديكِ منفرج
تتخالف الألوانُ في شفق
- ويلمها غسق فتنمزج
مرجٌ من "البحرين" فوقهما
- ضوء النجوم يرِفُّ والسُّرُجُ
تهفو الرمالُ إليه ناعمة
- والسفحُ والأمواج.. و"القبج"
صفتِ النفوس فلفّها مرحٌ
- يهفو بها، وتلاقت المُهَج
فيدٌ على خَصرٍ، ولا رصد
- وفمٌ على ثغر، ولا حرج
وعلى العُيون من الأسى رهجُ
- وعلى الوجوه من الجوى وهج
تُغْفِينَ والأطيافُ حالمةٌ
- في كلّ مغنىً فيك تختلج