على ماذا تدل مشاركة نبينا محمد في بناء المسجد
تأسيس مجتمع المسلمين بعد الهجرة
لم تكن هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته حدثاً عادياً عابراً، بل كانت حدثاً مؤثراً في العرب والمسلمين بشكلٍ خاصّ، وفي العالم أجمع أيضاً، فقد كانت بناءً لخير أمةٍ أخرجت للناس، وقد أشرف الرسول صلى الله عليه وسلم بنفسه على هذا البناء، واعتمد في ذلك على مقوّمات أساسية، أوّلها بناء المكان الذي سيتربّى فيه المسلمون ، ويجتمعون فيه، ويتعلمون فيه أمور دينهم وعقيدتهم، والمكان الذي سيخرج منه المجاهدون حاملين لراية الجهاد، مضحّين بكلّ ما يملكون من أجل دين الإسلام ، والمكان الذي سيجتمع فيه المسلمون خمس مرات في اليوم والليلة ليقيموا صلواتهم ويعقدوا جُمَعهُم، وهذا المكان هو المسجد بلا شكّ، فمن المعلوم أنّ أوّل عملٍ قام به الرسول صلى الله عليه وسلم بعد الهجرة هو الشروعُ في بناءِ مسجدٍ للمسلمين، والدافع لهذا الأمر أنّ المسلمين يحتاجون إلى التماسك، والوحدة، والترابط فيما بينهم في تأسيس مجتمعهم الجديد، خصوصاً في تلك المرحلة الخطيرة والعصيبة التي كانت تلحق بهم.
أمّا المُقوّم والأساس الثاني الذي اعتنى الرسول صلى الله عليه وسلم ببنائه وتأسيسه في المجتمع المسلم الجديد فهو التآخي بين المسلمين جميعاً، فقد آخى عليه الصلاة والسلام بين المهاجرين والأنصار، حتى ضرب الأنصار مثالاً عظيماً في الأخوّة، والوحدة، والإيثار، والمؤاخاةُ أمرٌ مهمٌّ جداً، فكما أنّ البيت لا يمكن أن يُبنى ويقوم بحجارة متفرقة، فإنّ الأمّة لا يمكن أن تنهض وتقوى برجالٍ متنازعين ومختلفين فيما بينهم، ومن المهمّ أيضاً أن تكون وحدة أفراد الأمة على عقيدةٍ صحيحةٍ، وفكرٍ واحد، لأنّ الوحدة التي تقوم على أساس العقيدة الخاوية أو الدين المفكّك يكون مصيرها الهلاك بلا شكّ، واستمرّ الرسول صلى الله عليه وسلم في تدشين مقوّمات المجتمع المسلم الجديد، فوضعَ الدستورَ الإسلامي الذي يحكم بين المسلمين وغيرهم، فكان أوّلَ دستورٍ مُنصفٍ عَرَفته البشريّة، وكتب معاهدة اليهود وإقرارهم على دينهم وأموالهم، وشرط عليهم فيه شروطاً واشترط لهم أخرى كذلك، فكان ذلك دستوراً بين المسلمين ومن يعيش معهم في المدينة من أقليات.
مشاركة النبي في بناء المسجد
فَرِح المسلمون بوصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة فرحةً كبيرة، فقد أحسّوا بالفضل العظيم والشرف الكبير الذي أعطاهم الله إياه، فقد أصبحت مدينتهم موطناً لإقامة رسول الله عليه الصلاة والسلام وصحابته المهاجرين، ثم أصبحت بعدها مركزاً لنصرة الإسلام، وأخذت قبائل المدينة تحاول اعتراض طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم من أجل أن ينزل عندهم ويكون في ضيافتهم، إلا أنّه كان يأمرهم بترك ناقته تسير كيفما شاءت لأنّها مأمورة من الله سبحانه وتعالى في المكان الذي تقف فيه، وهكذا ظلّت ناقته عليه السلام تسير إلى أن وصلت إلى دار بني مالك بن النجار، فبركت على باب مسجده صلى الله عليه وسلم؛ حيث كان يومها مربداً ليتيمين من بني النجار، هما سهل وسهيل ابني عمرو، وكانا في حجر معاذ بن عفراء، فلمّا بركت هناك نزل عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وسأل عن صاحب ذلك المربد فأجابه معاذ بأنّه لليتيمين وأنه سيرضيهما منه.
وهكذا اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك المربد مسجداً، وأمر الصحابة رضي الله عنهم بالبدء في بنائه، ونزل هو في بيت أبي أيوب إلى أن تمّ بناء المسجد والمساكن، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعمل مع المسلمين ويشاركهم في بناء المسجد، فدلّت مشاركته على ترغيبه للمسلمين في العمل لبناء المسجد، وعلى همّته النبوية العالية التي تظهر في مسيرته الدعوية باستمرار، وعلى حسّ المبادرة الكبير لديه عليه السلام أيضاً، وحرصه على غرس بذرة التعاون والإخاء والإيمان في المجتمع المسلم، وانطلق المهاجرون والأنصار في البناء، حتى قال قائل منهم:
لئن قعدنا والنبي يعمل***لذاك منا العمل المضلّل
وكانوا جميعاً يرددون أثناء عملهم في البناء:
لا عيش إلا عيش الآخرة***اللهم ارحم الأنصار والمهاجره
فكان يردّ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم بالقول: (اللهمَّ لا عيشَ إلا عيشُ الآخرة، فأكرمِ الأنصارَ والمهاجرَة).
دروس وعبر مستفادة من الهجرة النبوية
تضمّنت أحداث هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة المنورة وتأسيسه للدولة الإسلامية فيها دروساً وعبراً كثيرة، ونذكر منها ما يأتي:
- أهمية التضحية في حياة المسلم ، فقد خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من بلده الذي وُلد ونشأ فيه، واضطر لترك أهله وأقربائه وعشيرته من أجل الدعوة ، وضحّى الصحابة رضي الله عنهم كذلك، فهذا صهيب الرومي رضي الله عنه وأرضاه يترك ماله كلّه لقريش مقابل أن يتركوه ليهاجر مع المسلمين إلى المدينة المنورة.
- عدم اليأس، فقد واصل الرسول عليه الصلاة والسلام دعوته لأهل مكة أعواماً عديدة، إلّا أنّهم كانوا يرفضون دعوته، ويُقبِلون على التنكيل به والإساءة له ولصحابته رضي الله عنهم وتعذيبهم، فلم ييأس لأجل ذلك، بل ظلّ مستمراً في دعوته، وأخذ يبحث عن حلول أخرى وأرض بديلة عن مكة تصلح فيها الدعوة إلى أن يسّر الله سبحانه وتعالى له الأنصار لتكون المدينة المنورة هي أرض الدولة الإسلامية.
- ضرورة إتقان التخطيط، واستثمار جميع الطاقات، فقد جهّز الرسول صلى الله عليه وسلم خطة الهجرة، واختار صحبته فيها، وجهّز راحلته قبل أربعة أشهر منها، وجعل ذلك كلَّه بسريةٍ تامّة، ثم كلّف علي بن أبي طالب رضي الله عنه بالمبيت في فراشه تمويهاً للمشركين، ومن كمال تخطيطه أيضاً عليه السلام أنّه أمر الراعي عامر بن فهيرة أن يسلك بقطيعه طريق الغار حتى يمحو بذلك آثار أقدامه عليه السلام وصاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه.