عالم الغيب والشهادة
عالم الغيب وعالم الشهادة والفرق بينهما
أحاط الله -سبحانه- بكلِّ شيءٍ علماً، فهو شاهدٌ على عالم الشهادة كلّه، وقد أحاط بعلم الغيب جميعه، قال سبحانه: (عالِمُ الغَيبِ وَالشَّهادَةِ الكَبيرُ المُتَعالِ)، فهو -سبحانه- مطّلعٌ على أعمال وأفعال العباد الظاهرة والباطنة، وعلمه قد أحاط بالحبّة في ظلمات الأرض، وبعدد حبّات الرمال، وعدد قطرات المطر، ومكاييل الأنهار والبحار والمحيطات، وكل ما في البرّ والبحر، فقد أحصى كلّ شيءٍ علماً، (لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ)، فهو إذاً عالِمٌ لكلِّ ما في الغيب والشهادة، وفيما يأتي تفصيلٌ لمعنى عالَم الغيب والشهادة في اللغة والاصطلاح:
- تعريف عالم الغيب والشهادة لغة: ويعرّف بما يأتي:
- العالم لغة: كُل ما خلقه الله، وقيل: كُلّ شيءٍ موجود في الفلك، وقيل إنّ كُلّ صنفٍ من المخلوقات يُسمّى عَالَم، كعَالَم الإنسان، وعَالَم الحيوان، وعَالَم النبات،
- الغيب لغة: هو ما غاب عن الإنسان ولم يراه، وهو خلاف الشهادة،
- الشهادة لغة: ما يدركه الإنسان بحسِّه، وهو الخبر القاطع واليقيني، وكُلّ شيءٍ يُمكن إدراكه بأحد حواس الإنسان؛ كإخبار الإنسان لشيءٍ رآه.
- تعريف عالم الغيب والشهادة اصطلاحاً: ويعرّف بما يأتي:
- عالم الغيب اصطلاحاً: كُلّ شيءٍ يغيب عن المخلوقات كُلّهم، ومنها أنّ الله عالِم الغيب؛ أي عالِم بما سيكون وما سيقع، وعرّفه بعض العُلماء بأنّ كُلّ ما غاب عن النظر يطلق عليه غيب.
- عالم الشهادة اصطلاحاً: العالَم الذي يُشاهده جميع الخلق.
ويفرّق بين العَالَمين أيضاً بالإيمان بهما؛ فعالم الشهادة يستوي فيه جميع الناس، فلا أحد يستطيع إنكاره، ولا فضل لأحدٍ على أحدٍ في الإيمان به، أمّا عَالَم الغيب فهو ميزان التفاضل عند الله، وبه يصل الإنسان إلى درجة المُتقين؛ لأنّ الإنسان يؤمن ويصدّق بشيءٍ لا يراه، قال الله -تعالى- في صفات المتقين : (الم * ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ ۛ فِيهِ ۛ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ...).
عالَمُ الغيب
أنواع الغيب
عالَمُ الغيب ما يكون غائباً عن المخلوقات، وهناك نوعان من الغيب، وهما: الغيب المُطلق، والغيب النسبي، وبيان كلّ نوعٍ فيما يأتي:
- الغيب المُطلق: وهو الغيب الذي لا يعلمه إلّا الله، ولم يطّلع عليه أحدٌ من خلقه، وقد دلّت آياتٌ كثيرةٌ على هذا النوع، كقوله -تعالى-: (قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ)، وهذا الغيب لا يعلمه إلّا الله؛ لقوله -تعالى-: (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ)، وقد بيّن الله هذه المفاتيح، بقوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ).
- الغيب النسبي: وهو الغيب الذي يكون معلوماً لبعض الخلق، ولا يكون معلوماً لآخرين، فيكون غيباً بالنسبة للشخص الجاهل به، وهذا النوع من الغيب يمكن معرفته من خلال الوحي في الشريعة الإسلامية.
وذهب بعض العُلماء إلى تقسيم أنواع الغيب بصورةٍ أخرى؛ فالقسم الأول: لم يدركه كلّ البشر، وإنّما البعض منهم؛ كقصة نبي الله يوسف، فلم يشاهدها أو يدركها كلّ البشر بحواسهم، ولكنّ يوسف وإخوته قد عاشوها وأدركوها، والقسم الثاني: ما لم يدركه البشر، وإن كان من الممكن بالعقل إدراكها لو وُجدوا حين وقوعها؛ كالأخبار التي حدثت قبل وجود البشر على الأرض، والقسم الثالث: ما لا يُمكن للحواس إدراكه، ولا للعقل الحُكم عليه أو الإحاطة به؛ كصفات الله، وأحوال يوم القيامة ، أما قوله -تعالى-: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا*إِلا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ)، فهو كقوله -سبحانه-: (وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ)، فهو غيبٌ أراد الله -تعالى- تبليغه ممّا يتعلّق بأمور الدنيا أو الآخرة، فأطْلع عليه الأنبياء لأداء الرسالة، وسمّاه ابن عاشور في التحرير والتنوير: "الاطلاع المحقق، المفيد علماً، كعلم المشاهدة".
للمزيد من التفاصيل عن الإيمان بالغيب الاطّلاع على مقالة: (( مفهوم الإيمان بالغيب )).
خصائص عالم الغيب
إن للغيب وعالمه مجموعةً من الخصائص؛ منها: أنّ الإحاطة به من خصائص الله -سبحانه- وحده، أما البشر فلا يُحيطون به، كترتيبات القضاء والقدر، وعلم الساعة، وغيرها من الأمور الغيبية، قال سبحانه: (عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا)، ولكن يطّلعون على القليل منه، وهو ما أراد الله أن يُخبرهم به، ولا يتوقّف ذلك على إرادتهم، لتتحقّق لهم الغاية من خلقهم، وأمّا الغيب الذي يُطلعه الله لأنبيائه فهو من قَبيل الاصطفاء والاختيار، ومن خصائصه أنه مختصٌّ بعالم اللا محسوس، وإن كان العقل يدركه.
مصادر معرفة الغيب
يوجد في الغيب أشياء كثيرة؛ كاللوح المحفوظ، والنار، والعرش، وغيرها، ولا يُمكن معرفة هذه الموجودات إلّا بِمجموعةٍ من المصادر، وهي:
- القُرآن الكريم: وهو المصدر الأول للمعرفة الغيبية؛ إذ إنّه قطعي الثُبوت، ولم يُنقل أي اختلافٍ في ثبوته، ويجب الإيمان به، فالإيمان بالله والقُرآن مبنيٌ على العقل، فلو نظر الإنسان إلى الكون ودقة صُنعه لتوصّل إلى وجود الله، وبالنظر إلى العلاقة بين الخالق والخلق لوجد أنّها لا تتكامل إلّا بوجود كتابٍ من عند الله يُبين طبيعة هذه العلاقة؛ وهو القُرآن.
- السُنة الصحيحة: السنة المتواترة، وهي التي ثبتت نسبتها للنبي -صلى الله عليه وسلم- بشكل قطعي* مما رويَ عنه من قول أو فعل أو تقرير أو صفة، حيث رواها جمع عن جمع يستحيل اتفاقهم على الكذب؛ فشكّلت ضمن هذه الضوابط مصدراً مقطوعاً بصحته للأخذ بها في المسائل الاعتقادية، ومنها الأخبار الغيبية، وذهبت طائفة من أهل العلم إلى أنّه يؤخذ بالسنة الصحيحة التي ثبتت بخبر الآحاد* في المسائل الاعتقادية إذا كانت معزّزةً بالقرائن والشواهد التي تؤيّدها.
- العقل: ويُستعمل العقل بِمعانٍ مُتعددة، منها: الشيء الذي فضّل الله به الإنسان عن باقي المُخلوقات، وجعله به مُكلّفاً، أو بمعنى المعرفة الفطرية التي يشترك بها جميع العقلاء، أو العلوم النظرية التي تحتاج للنظر والاستدلال، أو العمل الذي يقوم به الإنسان وفقاً للعلم الذي أعطاه الله إيّاه، ويكون مصدراً من مصادر المعرفة للغيب المُتعقّل؛ أي الذي يحتاج في إثباته للعقل؛ كوجود الله، ووحدانيته ، وإثبات العقل للغيب إثباتاً مجملاً غير كاملٍ؛ لأنّه عاجزٌ عن إثبات التفصيل إلّا بوحيٍ، فيكون دوره في إثبات المعنى ولكنّه لا يقدر على بيان الكيفية، لذلك بيّن الله بعض الأمثلة من واقع الحياة في القرآن الكريم ليبيّن إمكانية وجودها، مثل: الاستدلال بخلق السماوات والأرض على خلق الإنسان، وإحياء الموتى بإحياء الأرض الميتة.
عالَمُ الشهادة
لِكُل عالَم موجوداته، وموجودات عالَم الشهادة هي كُلّ شيءٍ يُحيط بالإنسان من عالم الطبيعة، ويُمكن له إدراكه بِحواسه؛ كالحيوان، والنبات، والجماد، ومن أهمّ خصائص هذا العالَم أنّ الإنسان يُمكنه أن يعقله بالحسّ والبحث، ثُمّ بِعقله، فتكون الأداتين مُكملتين لِبعضهما، فالدارس والمتعلّم لا يخرجان عن العالم الملموس والمحسوس، لِيُحقق الهدف من استخلاف الإنسان في الأرض، مع استناده للوحي ليتكامل بذلك لفهمه لحياته ودينه، وأمّا أقسام هذا العالم فهما قسمان، الأول: الآفاق*، والثاني: الأنفُس*، وقد ذكرهما الله بقوله: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ)، فيكون للإنسان التفكّر في السماوات، والأرض، والقمر، وغير ذلك ممّا في الكون، وقد أمر الله الإنسان أن يتفكّر بعقله في الكون الفسيح في أكثر من آيةٍ، مثل قوله -تعالى-: (أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ*وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ*تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ)، وكُل ذلك ليتكامل الإنسان بين القسمين، فيُسخّر ما في الكون والأُفق، لتحقيق سعادته في فهم نفسه وحاجياتها، ليُحقّق مفهوم الخلافة في الأرض، والحديث عن عالَم الغيب والشهادة يتعلّق بالمخلوقات، وأمّا بالنسبة لله فعلمه مُطلقٌ، كاملٌ، ومُحيطٌ بكلّ الأشياء، ولا يخفى عليه شيءٌ في الأرض ولا في السماء، ممّا يجعل الإنسان مُراقباً لأعماله وتصرفاته؛ لِعلمه بِعلم الله به، وأنّه مسؤولٌ عن أعماله يوم القيامة، وبذلك تبرز أهمية التكامل بين العالَمين؛ الغيب والشهادة، ومن الآيات التي تُبين تلك الحقيقة قوله -تعالى-: (وَإِن تُبْدُوا مَا فِي أَنفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُم بِهِ اللَّـهُ فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَاللَّـهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ)، والحس هو وسيلة الإدراك المباشرة، وبداية طريق الإنسان نحو المعرفة، ولا يستطع الإنسان به أن يُدرك جميع الأشياء، ولكن لا بدّ له من النقل والعقل ليكون منهجاً مُتكاملاً.
أثر الإيمان بأنّ الله عالم الغيب والشهادة
للإيمان بأنّ الله عالم الغيب والشهادة الكثير من الآثار الإيمانية ، منها:
- اليقين بِمُراقبة الله، فيكون المسلم حريصاً على الطاعة ، بعيداً عن المعاصي؛ ليرتقي بنفسه إلى درجة الإحسان.
- الاعتدال في الحياة، فلا يجزع المسلم عند المُصيبة، ولا يبطر عند النعمة؛ لِعلمه بأنّ الله كتب الأرزاق والآجال قبل أن يخلق البشر.
- التحرّر من الشهوات، ومحبوبات الحياة الدُنيا؛ لِعلم المسلم بأنّ الرزق بيد الله وحده.
- رضى العبد بِكل ما أصابه، وتسليم أمره لله وحده.
- الحذر من كلام المُنجّمين، وممّن يدّعون علم الغيب؛ لأنّ العيد يُوقن بأنّ الغيب لا يعلمه إلّا الله.
- الحرص على العلم والتعلّم؛ لأنّ الله عليمٌ يُحب العلماء والمُتعلّمين.
- الخشية من الله -عز وجل-، والاستعداد للموت، والحرص على حُسن الخاتمة ، قال النبي -عليه الصلاة والسلام-: (فَواللَّهِ إنَّ أحَدَكُمْ - أوْ: الرَّجُلَ - يَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ النَّارِ، حتَّى ما يَكونُ بيْنَهُ وبيْنَها غَيْرُ باعٍ أوْ ذِراعٍ، فَيَسْبِقُ عليه الكِتابُ فَيَعْمَلُ بعَمَلِ أهْلِ الجَنَّةِ، فَيَدْخُلُها).
- التواضع بالعلم، وعدم الكِبر به، فالعالِم لا بدّ أن يحقّق تقوى الله والخشية منه في قلبه، قال الله -عزّ وجلّ-: (وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّـهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ).
- عالم الشهادة يُكسب المُسلم التمسّك بدينه، لما يرى ويُشاهد من الآيات الدالة على قُدرة الله وعظمته، وخاصّةً في النفس، والكون، وبذلك يزداد إيماناً بالله وبكلّ شيءٍ غاب عنه؛ لوجود بعض الأمثلة من عالم الغيب في عالم الشهادة؛ كإحياء الأرض الميتة الدالّة على قدرة الله على إحياء الموتى ،
________________________________________
الهامش
* قطعي الثبوت: هو ما قطعنا بصحّته إلى الشارع، ولا مجال للاجتهاد فيه؛ كالقرآن الكريم، والسنّة المتواترة.
*حديث الآحاد: هو ما الحديث الذي لم تجمع الأمة على تلقّيه بالقبول، ولم يجمع شروط التواتر، وهو ظنّي الدلالة، وفيه مجالٌ للاجتهاد، والأدلة الشرعية من الكتاب والسنة تثبت وجوب العمل بحديث الآحاد والاحتجاج به.
* الآفاق والأنفس: معنى الآية الكريمة (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ)؛ أي: وعد الله -سبحانه وتعالى- بأنه سيكشف للناس عن آياته ومعجزاته في السماوات وفي الأرض وفي أنفسهم؛ حتى يدركوا أن القرآن الكريم حقٌّ أنزله الله -تعالى- على نبيّه -صلى الله عليه وسلم-، وكل ذلك يدلّ على وحدانية الله -عز وجل- وكمال علمه وقدرته وحكمته، فالمقصود بالآفاق: نواحي السماوات والأرض، والمقصود بالأنفس: بديع صنع الله -تعالى- للإنسان عموماً، وخلقه بأحسن صورة.