ظاهرة المنادمة ووظيفة النديم في العصر العباسي الأول
تعريف المنادمة
المُنادَمة هي مصدر نادَم، ويقال للشخص نديم، ومعناه الشخص المُصاحِب أو المُجالِس على الشراب أو غيره، ويقال أن (المُنادَمة) مقلوبة من المُدَامَنة، لأن الإنسان يُدمن شرب الشراب مع نديمه، وقد ذكر في بعض المعاجم أن ندماء مثل كرماء ونَدَامى، إلا أنه حدث تطور دلالي لكلمة (نديم) فأصبحت تعني المرافقة، والمسامرة بشراب أو بدونه.
الجذور التاريخية لظاهرة المنادمة
أول ظهور للمنادمة كان عند ملوك الفرس، حيث اهتمّوا بتقريب الندماء والجلساء، فجعلوا الندماء على ثلاث طبقات؛ وكل طبقة كان قُرب مجلسها من الملك على حسب مكانتها الاجتماعية والعلمية.
الطبقة الأولى كانت من أبناء الملوك والثانية من محدثي الملك أهل الشرف والنسب والعلم، والطبقة الثالثة من أهل الهزل والضحك والغناء، وقد كانوا يرون تقريب الندماء من باب علامات كمال الملوك، لذا كانوا يولونهم اهتمامًا شديدًا فيصطحبونهم في حلّهم وترحالهم.
من خلال التجارة ووفود العرب التي كانت ترتاد بلاط الفرس والروم، انتقلت بعض عاداتهم وتقاليدهم إلى الجزيرة العربية، غير أن بعض العرب كانوا على صلة بالبلاط البيزنطي فامرؤ القيس وقس بن ساعدة نادموا وجالسوا قيصر الروم فيقول امرؤ القيس مفتخرًا:
ونادَمْتُ قَيصَر في مُلْكه
- فأَوْجَهَني ورَكِبْتُ البَرِيدَا
إلا أنه مع قدوم الإسلام وتحريم الخمر الذي كان أساس وصفة ملازمة للمنادمة، حلّ محل المنادمة المجالسة، واستمرّ هذا الأمر حتى بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في عصر الخلفاء الراشدين والعصر الأموي، حيث كان خلطاء الخلفاء يقومون بدور الجلساء والوزراء، فيستشيرهم الخليفة في أمور الدولة وغيرها، ويتحدثون في تعاليم الدين وعلمه، ولعل الاختلاف الواضح الذي حدث في هذه المجالس بعد الإسلام هو بساطتها بعد أن كانت معقّدة في مجالس الملوك السابقين عربًا وغير عرب.
ظاهرة المنادمة في العصر العباسي الأول
بعد خروج مفهوم المنادمة عن كونها ترتبط بشرب الخمر فقط، توسع معناها وأصبح يشمل الجليس المصاحب حتى بدون شرب، لكن في العصر العباسي تحوّلت المنادمة إلى مهنة لها شروطها وأحكامها، كون مجالس اللهو بطبيعتها كانت مزدهرة ومنتشرة بكثرة في العصر العباسي، فقاموا باتباع نهج الفرس في مجالس الندماء بجعلهم على ثلاث طبقات ورتب محددة.
كانت مجالس اللهو والأنس والأدب يحضرها أنواع من الناس مثل الجواري والغلمان للمتع العاطفية، والموسيقيين والعازفين من أجل الطرب، والمهرّجين وغيرهم، أما الندماء فكانوا من أجل الاستمتاع الفكري والنفسي، وهذا كان أعلى رتبة من اللهو والأنس، لذلك كانوا يحظون بأهمية كبيرة واحترام وتقدير، وكانت مطمح المثقفين والأدباء وغايتهم.
لم يُعرف عن أبي العباس أول الخلفاء العباسين كثرة المنادمة وحب الشرب، لذا كان يخرج للندماء بدايةً وبعدها احتجب عنهم، لكنه عُرِف عنه أنه لم يترك نديمًا أو مجالسًا إلا وقدّم له أعطية قبل خروجه من عنده، وجاء بعده أبو جعفر المنصور الذي احتجب تمامًا عن الندماء، وحاول المهدي أن يحذو حذوه لكنه لم يلبث أن ظهر لهم.
كانت النقلة النوعية في ترف العباسيين في أيام هارون الرشيد بعدما ازدهرت الدولة، فأصبح النديم لأول مرة موظف في البلاط، له راتب خاص به عدا الجوائز والأعطيات التي تُقدَّم له من الخلفاء والأمراء الذين يجالسهم، وبعد هارون الرشيد ازدهرت المنادمة وكثرت في عصر الأمين، الذي كان لا يلقي بالًا بمن ينادمه ويجالسه، ولا يحتجب عن ندمائه.
وظيفة النديم
يمكن تعداد وظيفة النديم فيما يأتي:
- يرافق الملوك والخلفاء والأمراء والوزراء والنبلاء وغيرهم في رحلاتهم وأسفارهم، لغرض تسليتهم ومؤانستهم بما لديه من فنون وقصص وأخبار ونكت.
- ينصح صاحبه الذي ينادمه ويقدم لهم ما لديه من خبرة واطلاع ومعلومات.
- يكون أديبًا فصيحًا عالمًا، على اطلاع بعلوم العرب وأشعارهم وحكاياتهم، وعلى علم بالتاريخ والدين والثقافة حتى يكون حديثه مسليًّا يجلب لنفس صاحبه البهجة ويضيف لعلمه.
- يمكنه لعب الشطرنج ويمارس بعض الهوايات الفنية أو الرياضية كالصيد وغيره، حتى يشاركها صاحبه فيقضي معه وقت ممتع.
- يكتم الأسرار التي يطّلع عليها، حتى لو ترك صاحبه ومهنته وفارقه.
- يجب أن يكون النديم عارفًا عالمًا بالطرقات ليلًا، لأنه يرافق صاحبه إذا كان خليفة أو ملكًا أو أميرًا، فيستدلّ به.
- يكون شخصًا يمكنه السهر، حتى يرافق صاحبه في لياليه فلا يتثاءب في حضرته أو يتململ.