شعر النقائض
تعريف شعر النقائض
النقائض لغة: هي هدم ما أبرمت من عقد أو بناء، ونقض البناء: هدمه، وناقضه في الشيء: أي خالفه، والمناقضة في القول: أن يتكلم بما يتناقض معناه والنقيضة في الشعر: ما ينقض به، وكذلك المناقضة في الشعر أن ينقض الشاعر الآخر ما قاله الأول.
أما تعريفها اصطلاحاً: أن يتوجه الشاعر بقصيدة يهجو بها شاعرًا آخر، ويسخر منه ومن قبيلته، ويفخر بنفسه وقومه، وبما لهم من أمجاد ومكانة، فیجیبه الشاعر الآخر بقصيدة أخرى، وغالبًا ما تكون القصيدة الثانية على وزن القصيدة الأولى، وعلى القافية نفسها ناقضاً كثيراً ما جاء به الشاعر الأول من معانٍ وصور، ومضيفاً إلى القصيدة فخراً وهجاءً.
بدايات شعر النقائض
من الصعب تحديد نشأة النقائض، ولكن يمكن القول بأنها موجودة منذ الأزل منذ أن أدرك الإنسان ذاته، ومن هنا فالنقائض كانت موجودة في العصر الجاهليّ، وذلك كما أكد (أحمد الشايب)، و(صلاح رزق) و(شوقي ضيف) الذي أشار إلى أن بذور النقائض كانت موجودة قبل العصر الأموي، ويضيف عن هذا الفن قائلاً بأن النقائض تطوير لفن الهجاء، ومن الأمثلة على النقائض في العصر الجاهليّ ما جرى بين الحارث بن عباد والمهلهل، حيث يقول الحارث في قصيدته:
قربا مربط النعامة مني
- لقحت حرب وائل عن حيال.
فيرد المهلهل على ذلك بقوله:
قربا مربط المشهر مني
- لكليب الذي أشاب قذالي.
هنا يلاحظ أن الأبيات الـسابقة تتشابه فـي تكرار المقاطع، على الرغم من أن المهلهل لـم يقرأ أبیات الحارث، وقام بالرد علیها حرفًا حرفًا وحصل هـذا التـشابه والتكـرار، والـذي يبرر ذلك أن واقـع النقـائض فـي العـصر الجاهلي كان یتسم بالعفویة.
أشكال المناقضة الشعرية
سلك شعراء النقائض طرقًا مختلفة ومتنوعة ترجع إلى أصل عام واحد وهو أن يسعى الشاعر إلى إفساد ما قاله شاعر آخر، فيفسر المعاني لصالحه ويقلل من أهمية ما قاله الشاعر الأول، ومن أهم الطرق والأشكال التي اتبعها شعراء النقائض في نقض القول ما يلي:
- القلب، بمعنى يقول الشاعر الأول هجاءً فيرد عليه الثاني قالباً عليه معانيه ذاتها؛ باعتبار أنها من صفات الأول.
- المقابلة أو الموازاة، وهي أن يضع الشاعر أقوالاً من المفاخر أو الصفات، بحيث تكون مقابلة لما قاله شاعر آخر وتكون مناظرة لها.
- التوجيه، ويكون ذلك بأن يتناول شاعران حادثة معينة ويفسرانها على نحو يؤيد موقف كل منهما سواء في الفخر أو الهجاء.
- التكذيب أو تنازع المآثر، وذلك أن يدّعي كلّ شاعر لنفسه أو لقومه مأثرة بعينها وينفيها عن الآخر.
شعر النقائض في العصر الأمويّ
تطور فن النقائض في العصر الأموي بشكل كبير على نحو دعا بعض الباحثين إلى قصر مصطلح النقائض على الهجاء، وقد عكس هذا الفن جانباً واضحاً من الصراعات السياسية والخلافات الحزبية وقتذاك، وتطور مصطلح النقائض ليدلل أكثر على السخرية والهجاء والفكاهة، ومن أبرز الرواد في هذا الفن، ثلاثي النقائض؛ (جرير، الأخطل، الفرزدق)، حيث أحيوه وكانوا أبرز قائلي هذا النوع من الشعر، وما ساعدهم في أن يبرزوا في ذلك قدرتهم الكبيرة على النقاش والحوار والجدال، ولعلهم أفادوا من علماء الفقه وحلقات العلم وتاريخ الأيام، والناظر لشعرهم سيجد الكثير من المعاني والأفكار التي غابت عن ذهن الكثيرين، بحكم اطلاعهم الواسع إلى التاريخ والنظر في ماضي الآخر ومعرفة كل صغيرة وكبيرة بما يتعلق بتاريخ حياته، ومن ذلك قول جرير للأخطل:
بكى دوبلٌ ، لا يَرقى الله دمعه
- ألا إنما يبكي منَ الذُلِّ دوبَــــــلُ
فقال الأخطل والله ما سمتني أمي دوبلاً إلا وأنا صبي صغير ثم ذهب ذلك عني لما كبرت.
كما تأثر شعراء النقائض بالشعر القديم، وذلك لسعة اطلاعهم، ومن الصعب اكتشاف هذا التأثير لقدرتهم على التغيير والتحوير، ومن أمثلة ذلك تأثر الأخطل بالنابغة، حيث قال:
فما الفُراتُ إذا هَبّ غواربه
- تَرمي أواذيُّهُ العِبْرَينِ بالزّبَدِ
يَمُدّهُ كلُّ وادٍ مُتْرَعٍ، لجِبٍ،
- فيه ركامٌ من الينبوتِ والحضدِ.
فيحاكي الأخطل هذه الصورة فيصف كرم عبد الملك، ويقول:
وَما الفُراتُ إِذا جاشَت حَوالِبُهُ
- في حافَتَيهِ وَفي أَوساطِهِ العُشَرُ
وَذَعذَعَتهُ رِياحُ الصَيفِ وَاِضطَرَبَت
- فَوقَ الجَآجِئِ مِن آذِيِّهِ غُدُرُ
أبرز شعراء النقائض
يعد كلّ البعيث المجاشعيّ، والراعي النميري وجرير والفرزدق والأخطل من أبرز شعراء النقائض، وقد اشتهر جرير بنقائضه مع الفرزدق والأخطل، وفي الآتي ذكر نبذة مختصرة عن كلّ منهم:
- الفرزدق: هو همام بن غالب بن صعصعة المعروف بالفرزدق، هو شاعر من النبلاء من أهل البصرة، وله أثر واضح في اللغة، حيث قيل: (لولا شعر الفرزدق لذهب ثلث لغة أهل العرب، ولولا شعره لذهب نصف أخبار الناس)، هو من شعراء الطبقة الأولى وصاحب الأخبار مع جرير والأخطل، وتعد مهاجاته لهما من أشهر ذلك.
- جرير بن عطية: هو جرير بـن عطية بـن حذيفة الكلبي اليربوعي، ولد في اليمامة عام 28 هـ، وكان من أشعر وأغزر شعراء أهل عصره، ولم يثبت أمام شعره إلا الفرزدق.
- الأخطل: هو غياث بن غوث الصلت بن طارقة بـن عمـرو بن تغلب، والأخطل لقب غلب عليه، حيث جاء في طبقات فحول الشعراء لابن سلام، أنه قال: "وكان كعـب سـماه الأخطل، وذلك أنه سمعه ينشد هجاء فقال يا غلام، إنك لأخطل اللسان"، وكان شاعرًا مـصقول الألفـاظ، حـسن الديباجة، فـي شـعره إبـداع، اشـتهر فـي عهد بني أمية
نماذج من شعر النقائض
من أشهر النقائض في العصر الأموي هي ما كانت بين جرير والفرزدق، حيث استمرت النقائض بينهما مدة خمسة وأربعين عاماً، ثم كانت النقائض بين جرير والأخطل وقد استمرت بينهما تـسعة عشر عاماً، أما النقائض بين جرير وسائر الشعراء فهي كثيرة.
من نقائض الجرير والفرزدق
وفي الآتي ذكر لأبيات أشهر قصيدتين في النقائض بين الفرزدق وجرير، قال الفرزدق:
فَما أَنتَ مِن قَيسٍ فَتَنبَحَ دونَها
- وَلا مِن تَميمٍ في الرُؤوسِ الأَعاظِمِ
وَإِنَّكَ إِذ تَهجو تَميمَن وَتَرتَشي
- تَبابينَ قَيسٍ أَو سُحوقَ العَمائِمِ
كَمُهريقِ ماءٍ بِالفَلاةِ وَغَرَّهُ
- سَرابٌ أَثارَتهُ رِياحُ السَمائِمِ
بَلى وَأَبيكَ الكَلبِ إِنّي لَعالِمٌ
- بِهِم فَهُمُ الأَدنَونَ يَومَ التَلاحُمِ
فَقَرِّب إِلى أَشياخِنا إِذ دَعَوتَهُم
- أَباكَ وَدَعدِع بِالجِداءِ التَوائِمِ
فَلَو كُنتَ مِنهُم لَم تَعِب مِدحَتي لَهُم
- وَلَكِن حِمارٌ وَشيُهُ بِالقَوائِمِ.
وقد نقض جرير قصيدة الفرزدق بقوله:
لَقَد وَلَدَت أُمُّ الفَرَزدَقِ فاجِراً
- وَجاءَت بِوَزوازٍ قَصيرِ القَوائِمِ
وَما كانَ جارٌ لِلفَرَزدَقِ مُسلِمٌ
- لِيَأمَنَ قِرداً لَيلُهُ غَيرُ نائِمِ
يُوَصِّلُ حَبلَيهِ إِذا جَنَّ لَيلُهُ
- لِيَرقى إِلى جاراتِهِ بِالسَلالِمِ
ومن نقائض الأخطل وجرير
يقول الأخطل في جرير:
فَإِذا رَأَيتَ مُجاشِعاً قَد أَقبَلَت
- فَاِهرُب إِلَيكَ مَخافَةَ الظِرّانِ
وَإِذا وَرَدتَ الماءَ كانَ لِدارِمٍ
- عَفَواتُهُ وَسُهولَةُ الأَعطانِ
فَاِخسَأ كُلَيبُ إِلَيكَ إِنَّ مُجاشِعاً
- وَأَبا الفَوارِسِ نَهشَلاً أَخَوانِ
قَومٌ إِذا خَطَرَت عَلَيكَ فُحولُهُم
- جَعَلَتكَ بَينَ كَلاكِلٍ وَجِرانِ
وَإِذا وَضَعتَ أَباكَ في ميزانِهِم
- رَجَحوا وَشالَ أَبوكَ في الميزانِ
فقال جرير فيه:
يا ذا العَباءَةِ إِنَّ بِشراً قَد قَضى
- أَن لا تَجوزَ حُكومَةُ النَشوانِ
فَدَعوا الحُكومَةَ لَستُمُ مِن أَهلِها
- إِنَّ الحُكومَةَ في بَني شَيبانِ
بَكرٌ أَحَقُّ بِأَن يَكونوا مَقنَعاً
- أَو أَن يَفوا بِحَقيقَةِ الجيرانِ
قَتَلوا كُلَيبَكُمُ بِلَقحَةِ جارِهِم
- يا خُزرَ تَغلِبَ لَستُمُ بِهِجانِ