شروط وآداب المفسر
شروط المفسر
المعرفة باللّغة وعلومها
ينبثق هذا الشرط من كون القرآن الكريم أُنزل باللّغة العربية، فلا بدّ من علم المفسّر بعلوم اللّغة العربية ليتمكّن من فهم معاني القرآن الكريم، وخصائصه، ووجوه إعجازه. ومن علوم اللّغة العربية الواجب على المفسّر العلم بها؛ علم النّحو، واشتقاق الكلام، وبناء الكلمة، والبلاغة بأنواعها، والقراءات .
فمثلاً علم النّحو يغيّر معنى الكلام بحسب حركته، وبتغيّر الحركة قد ينقل مُراد الآية من معنى إلى آخر، وعلم الصرف يُبيّن صيغ الكلمات وبنائها، وبحسب تصريف الكلمة يختلف المعنى وقد ينقلب إلى ضدّه، ممّا يوقع الجاهل به بالخطأ، والاشتقاق الذي يُرجع كل كلمةٍ إلى أصلها، أمّا البلاغة فيُعرف به خصائص تركيب الكلام ووجوه تحسينه، وكلّ هذه العلوم ممّا لا يُستغنى عنه من أجل فهم القرآن وإدراك إعجازه.
ويعدّ علم اللّغة من أجلّ وأهمّ العلوم الواجب على المفسر أن يكون عالماً بها ومتعمّقاً فيها، فلا يكتفي بالعلم اليسير منه أو العلم ببعضه وترك الآخر، فقد أحاط القرآن باللّغة من جميع جوانبها، وعليه فإن الواجب على المفسر أيضاً أن يكون لديه علمٌ واسعٌ باللغة ليتمكّن من فهم القرآن الكريم.
المعرفة بأصول التّفسير والعلوم المتعلقة به
ينبغي على المفسّر أن يكون عالماً بعلم أصول التفسير وما يتفرّع عنه من العلوم؛ مثل الناسخ والمنسوخ، وأسباب النزول ، والقراءات، ويعدّ علم أصول التفسير المفتاح الذي يفتح للمفسّر باب تفسير القرآن الكريم وفهمه، ويقيه من الوقوع في الخطأ والضلال، فمثلاً يُعرف بعلم القراءات كيفية نطق الكلمات، وبه تترجّح الروايات على بعضها البعض، فزيادة الكلمات أو نقصانها وتغير حركاتها واستبدالها يؤثر على معنى التفسير وقد يغيّره.
ومنه أيضاً العلم بأصول الدين، أو ما يسمّى: بعلم الكلام، لينظر المفسر من خلاله إلى القرآن الكريم بمنظار الاعتقاد الصّحيح متجنّباً الوقوع في الأخطاء العقدية، فيعرف ما يجب لله وما يمتنع عنه، وما يجب للرّسل وما يمتنع عنهم، والواجب على المفسر أن يكون عالماً بهذا العلم للقرآن من جميع وجوهه؛ وذلك أنّ القرآن يفسّر بعضه البعض.
صحة الاعتقاد
إنّ للعقيدة تأثيرها على صاحبها إن كانت صحيحة أو ضالة، فإن كانت ضالة فإنها ستدفعه إلى التحريف وفق هواه، ونقل ما يريده دون ما لا يريده، فكان لا بدّ للمفسر من صحة الاعتقاد حتى لا يؤثّر اعتقاده الخاطئ على تفسيره، فلا يُطمأنّ لكلامه إذا كان منحرف العقيدة، ولا يمكن اعتماد أقوال المبتدعة، لأنّ غايتهم الفتنة، ويعد هذا الشرط من الشروط التي تندرج تحت آداب المفسر، وليس له علاقة بقدرته العلمية، وقد نقل السيوطي عن الطبري أنّه عدّ ضلك أول أداةٍ من أدوات المفسّر.
التجرّد من الهوى والتعصب المذهبي المذموم
يجب على المفسّر أن يتجرّد عن هواه والميل إلى مذهبه، وأن يعتمد في بيان معاني الآيات الكريمة على تفسيرها الصّحيح دون الميل إلى مذهبه أو هواه ورغبة نفسه، ولا يُطلق الكلام دون دليلٍ وبيّنة، كما ينبغي أن يجعل جُلّ اعتماده على من سبقه من السّلف الصالح الذين كانوا شديدي الحذر في ذلك، وأن يخلص في تفسيره لله -تعالى- لينال توفيقه -سبحانه-، ويدخل في قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (من يُرِدِ اللهُ به خيرًا يُفَقِّهْهُّ في الدينِ).
آداب المفسر
هناك العديد من الآداب التي يجدر بالمفسّر التّحلي بها، ومنها ما يأتي:
- إخلاص النّية لله -تعالى-: فالأصل في طلب العلوم الشّرعية أن يريد صاحبها بها إفادة المجتمع، وتقديم الخير والمنفعة له، وأن يتجنّب فتن الدنيا ليوفّقه الله -تعالى-، فينتفع بعلمه وينفع الآخرين، وأن يبتغي وجه الله -تعالى-، وذلك لأنّ الإقبال على الدنيا قد يدفع المفسّر إلى الإعراض عن هدفه والتوجّه لغير مُبتغاه، فقد قال الله -تعالى-: (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّـهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ).
- التّحلّي بالأخلاق الحسنة : وذلك لأنّ المفسر يُعدّ محلّ قدوة للآخرين، يرشدهم لطريق الصّواب ويؤدّبهم، ولا يمكن له أن يكون مؤدِّباً إلّا إذا كان متّصفاً بمكارم الأخلاق التي تظهر على كلّ حركاته وسكَنَاته، وأقواله وأفعاله، ومظهره، فيتحرّى في كلامه ما يطمئن السّامع إليه ويجذبه، ويتجنّب الغليظ من القول الذي ينفّر السامع، ويظهر تواضعه لهم ولا يخضع لمال أحدٍ أو جاهه، ويجاهد بلسانه فلا يكتم الحقّ، ويحترم الكبير ويوقّره ويعترف بفضله، ويلبس ما يظهر سمته كعالم، ويجلس بسكينةٍ ووقارٍ وهيبةٍ وكذلك في مشيته.
- الحرص على النّقل بصدقٍ ودقّةٍ والضبط في النقل: ومن ذلك الحرص على عدم نقل إلا ما يكون متثبّتاً من صحته، ويتحقّق ذلك من خلال الاعتماد على الأسانيد الصّحيحة للمرويّات من الأحاديث ، وأسباب النزول، والناسخ والمنسوخ، وما ورد عن الصحابة والعلماء والسّلف الصالح.
- العمل بالقرآن الكريم: وذلك لأن صلب موضوع التفسير هو القرآن الكريم ، فلا يمكن أن يكون المفسّر ليس له فهم بالقرآن الكريم ولا يعمل بما فيه، وقد قال الدكتور محمد الصّباغ: "إنّ هذا الكتاب الكريم لا يفتح خزائن كنوزه وجواهره ودرره إلا لمن آمن بمنزله، وعمل به كله، وأحلّ حلاله وحرّم حرامه، وأخلص لله النّية في فهمه وطلبه للعلم الذي يبلغه تفسيره وتدبره".
أهمية تحقّق الشروط والآداب في المفسر
هدّد الله -تعالى- بالوعيد بالعذاب الشديد لمن يتجرّأ على القرآن، فيتكلّم فيه من غير علم، ومن هنا وضع العلماء مجموعة شروط للمفسّر لا بدّ من توفّرها فيه، حتّى لا يقع في هذا الوعيد، ولا بدّ له كذلك أن يجتهد في البحث العلميّ بحثاً دقيقاً، ويعمل فيه على تغذية عقله بقدر استطاعته، وذلك لأنّ المُراد من التّفسير هو: بيان مُراد الله -تعالى- من كلامه، الذي لن يصل البشر بقصورهم إلى إدراكه كله، ولكنّ إدراك بعضه يكون بمواصلة الجهد والبذل في فهمه، إضافة إلى أنّ قدرات الباحثين متفاوتة، فقد يدرك البعض ما لا يدركه الآخرون، فقد قال الله -تعالى-: (وَفَوقَ كُلِّ ذي عِلمٍ عَليمٌ)، كما أن هذ الشروط قد وضعت صيانةً للقرآن الكريم من الكلام فيه بغير ضابط اتباعاً للهوى.