شرح نونية ابن زيدون
شرح نونية ابن زيدون
كتب ابن زيدون هذه القصيدة مرسلًا إياها إلى ولادة محاولًا استعطافها ووصف حاله بالبعد عنها، فأخذ يذكرها بالأيام التي كان ينعم فيها بوصلها ويقارن بين حاله في أيامها معًا وحاله في بعده عن ولادة، لكن ولادة لم تأبه بما كتبه فيها.
يقف ابن زيدون في هذه القصيدة على تفاصيل حبه الذي لم يكتمل لولادة، وما حصل بينهما من جفاء بسبب فعل الوشاة، فبدأ قصيدته بما يشير إلى تبدل الحال، بين ما كان بينهما من وصل وحب ويحاول أن يقارن بين أيامه السعيدة المنصرمة وبين حياته الحزينة بفقدان وصل ولادة هذه الأميرة الحسناء التي لم يشبهها أحد في أوصافها.
شرح الأبيات من 1 إلى 7
يبدأ الشاعر القصيدة ببيت يلخص فيه ما يريد قوله بالمقارنة ومقابلة التنائي بالتداني وطيب اللقاء بالتجافي، فأوجز ما يريد قوله في هذا البيت، إذ إنه يقارن حياته بقرب ولادة ثم حياته بالبعد عنها، ثم يعلن في البيت الثاني انتهاء العلاقة التي جمعته بولادة بكل أسى كمن يعلن خبر وفاة شخص ما، فيقول:
أضحى التَنائي بَديلاً مِن تَدانينا
:::وَنابَ عَن طيبِ لُقيانا تَجافينا
أَلّا وَقَد حانَ صُبحُ البَينِ صَبَّحَنا
:::حَينٌ فَقامَ بِنا لِلحَينِ ناعينا
مَن مُبلِغُ المُلبِسينا بِاِنتِزاحِهِمُ
- حُزناً مَعَ الدَهرِ لا يَبلى وَيُبلينا
أَنَّ الزَمانَ الَّذي مازالَ يُضحِكُنا
- أُنساً بِقُربِهِمُ قَد عادَ يُبكينا
غيظَ العِدا مِن تَساقينا الهَوى فَدَعَوا
:::بِأَن نَغَصَّ فَقالَ الدَهرُ آمينا
فَاِنحَلَّ ما كانَ مَعقوداً بِأَنفُسِنا
- وَاِنبَتَّ ما كانَ مَوصولاً بِأَيدينا
وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا
- فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا
يتساءل بعد ذلك عمن يبلغ رسالته للوشاة الذين كانوا سبب هذا الانقطاع، وأن ما فعلوه جعل الزمان الذي كان يسعده سابقًا يبكيه الآن، فيقول أن أعداءه غيظوا أي سخطوا من حبهما فدعوا عليهما بأن يغصّا بهذا الحب الذين كانا يتساقيانه، وكأنه يشبه حبهما بشيء يشرب، فعند دعاء العدا عليهما استجاب الدهر لهذا الدعاء وافترقا.
شرح الأبيات من 8 إلى 19
يا لَيتَ شِعري وَلَم نُعتِب أَعادِيَكُم
- هَل نالَ حَظّاً مِنَ العُتبى أَعادينا
لَم نَعتَقِد بَعدَكُم إِلّا الوَفاءَ لَكُم
- رَأياً وَلَم نَتَقَلَّد غَيرَهُ دينا
وَقَد نَكونُ وَما يُخشى تَفَرُّقُنا
:::فَاليَومَ نَحنُ وَما يُرجى تَلاقينا
يا لَيتَ شِعري وَلَم نُعتِب أَعادِيَكُم
:::هَل نالَ حَظّاً مِنَ العُتبى أَعادينا
لَم نَعتَقِد بَعدَكُم إِلّا الوَفاءَ لَكُم
:::رَأياً وَلَم نَتَقَلَّد غَيرَهُ دينا
ما حَقَّنا أَن تُقِرّوا عَينَ ذي حَسَدٍ
:::بِنا وَلا أَن تَسُرّوا كاشِحاً فينا
كُنّا نَرى اليَأسَ تُسلينا عَوارِضُهُ
:::وَقَد يَئِسنا فَما لِليَأسِ يُغرينا
بِنتُم وَبِنّا فَما اِبتَلَّت جَوانِحُنا
:::شَوقاً إِلَيكُم وَلا جَفَّت مَآقينا
نَكادُ حينَ تُناجيكُم ضَمائِرُنا
:::يَقضي عَلَينا الأَسى لَولا تَأَسّينا
حالَت لِفَقدِكُمُ أَيّامُنا فَغَدَت
:::سوداً وَكانَت بِكُم بيضاً لَيالينا
إِذ جانِبُ العَيشِ طَلقٌ مِن تَأَلُّفِنا
:::وَمَربَعُ اللَهوِ صافٍ مِن تَصافينا
وَإِذ هَصَرنا فُنونَ الوَصلِ دانِيَةً
:::قِطافُها فَجَنَينا مِنهُ ما شينا
لِيُسقَ عَهدُكُمُ عَهدُ السُرورِ فَما
:::كُنتُم لِأَرواحِنا إِلّا رَياحينا
في هذه المجموعة من الأبيات يعتاب ابن زيدون ولادة عتاب المحب، بأنه لم يستمع إلى الوشاة ولم يعط لكلامهم أهمية، بينما هي صدقت ما يقال عنه، وكذبت الحقيقة التي تعرفها عنه والتي لم يظهر غيرها، ويكمل بأنه بقي وفيًّا لها حتى بعد فراقها، ويعاتبها أنها أقرت عيون الحساد وسمحت للوشاة بإنهاء علاقتهما.
يصف ابن زيدون في هذه الأبيات أيضًا حاله بالبعد عن ولادة وأنه كلما ذكرها يشعر بالأسى و الحزن على فراقها، ويذكر وقت كانت لياليه مشرقة بيضاء بوجودها، ثم يؤكد أنه لن يهوى غيرها حتى لو ببعده عنها قلبه ثابت على حبها مع أن البعد يغير قلوب المتحابين.
شرح الأبيات من 20 إلى 38
يا سارِيَ البَرقِ غادِ القَصرَ وَاِسقِ بِهِ
:::مَن كانَ صِرفَ الهَوى وَالوُدُّ يَسقينا
وَاِسأَل هُنالِكَ هَل عَنّى تَذَكُّرُنا
:::إِلفاً تَذَكُّرُهُ أَمسى يُعَنّينا
وَيا نَسيمَ الصَبا بَلِّغ تَحِيَّتَنا
:::مَن لَو عَلى البُعدِ حَيّا كانَ يُحَيّينا
فَهَل أَرى الدَهرَ يَقضينا مُساعَفَةً
:::مِنهُ وَإِن لَم يَكُن غِبّاً تَقاضينا
رَبيبُ مُلكٍ كَأَنَّ اللَهَ أَنشَأَهُ
:::مِسكاً وَقَدَّرَ إِنشاءَ الوَرى طينا
أَو صاغَهُ وَرِقاً مَحضاً وَتَوَّجَهُ
:::مِن ناصِعِ التِبرِ إِبداعاً وَتَحسينا
إِذا تَأَوَّدَ آدَتهُ رَفاهِيَةً
:::تومُ العُقودِ وَأَدمَتهُ البُرى لينا
كانَت لَهُ الشَمسُ ظِئراً في أَكِلَّتِه
:::بَل ما تَجَلّى لَها إِلّا أَحايينا
كَأَنَّما أُثبِتَت في صَحنِ وَجنَتِهِ
:::زُهرُ الكَواكِبِ تَعويذاً وَتَزيينا
ما ضَرَّ أَن لَم نَكُن أَكفاءَهُ شَرَفاً
:::وَفي المَوَدَّةِ كافٍ مِن تَكافينا
يا رَوضَةً طالَما أَجنَت لَواحِظَنا
:::وَرداً جَلاهُ الصِبا غَضّاً وَنَسرينا
وَيا حَياةً تَمَلَّينا بِزَهرَتِها
:::مُنىً ضُروباً وَلَذّاتٍ أَفانينا
وَيا نَعيماً خَطَرنا مِن غَضارَتِهِ
:::في وَشيِ نُعمى سَحَبنا ذَيلَهُ حينا
لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً
:::وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا
إِذا اِنفَرَدتِ وَما شورِكتِ في صِفَةٍ
:::فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاًّ وَتَبيينا
يا جَنَّةَ الخُلدِ أُبدِلنا بِسِدرَتِها
:::وَالكَوثَرِ العَذبِ زَقّوماً وَغِسلينا
كَأَنَّنا لَم نَبِت وَالوَصلُ ثالِثُنا
:::وَالسَعدُ قَد غَضَّ مِن أَجفانِ واشينا
إِن كانَ قَد عَزَّ في الدُنيا اللِقاءُ بِكُم
:::في مَوقِفِ الحَشرِ نَلقاكُم وَتَلقونا
سِرّانِ في خاطِرِ الظَلماءِ يَكتُمُنا
::حَتّى يَكادَ لِسانُ الصُبحِ يُفشينا
لا غَروَ في أَن ذَكَرنا الحُزنَ حينَ نَهَت
:::عَنهُ النُهى وَتَرَكنا الصَبرَ ناسينا
يعد هذا المقطع أهم مقطع بالقصيدة لزخم أبيات الغزل فيه وبسببه اعتبرت القصيدة غزلية، ففي هذه الأبيات يرسل ابن زيدون رسالة إلى ولادة ليسألها إن كانت تشعر بالحزن لتذكره كما يعاني هو من ذكراها، ويطلب من نسيم الصباح أن يوصل لها تحيته ويطلب من الدهر أن يجمعهما من جديد.
يسهب الشاعر في هذا المقطع في وصف ولادة وتفردها عن غيرها من النساء وأن لا أحد يجاريها في جمالها، فهي من بيت الملوك، حيث تجدر الإشارة إلى أن ولادة هي أميرة أبوها الخلفية المستكفي بالله، فهي ليست كغيرها في نظر الشاعر حتى إنه لم يرَ وجود داعٍ لذكر اسمها في الحديث عنها؛ فهي لم يشاركها أحد في صفاتها وبمجرد ذكر هذه الصفات يعرف أنها هي المقصودة، فيقول:
لَسنا نُسَمّيكِ إِجلالاً وَتَكرِمَةً
:::وَقَدرُكِ المُعتَلي عَن ذاكَ يُغنينا
إِذا اِنفَرَدتِ وَما شورِكتِ في صِفَةٍ
:::فَحَسبُنا الوَصفُ إيضاحاًّ وَتَبيينا
شرح الأبيات من 39 إلى 45
إِنّا قَرَأنا الأَسى يَومَ النَوى سُوَراً
- مَكتوبَةً وَأَخَذنا الصَبرَ تَلقينا
أَمّا هَواكِ فَلَم نَعدِل بِمَنهَلِهِ
:::شُرَباً وَإِن كانَ يُروينا فَيُظمينا
لَم نَجفُ أُفقَ جَمالٍ أَنتِ كَوكَبُهُ
:::سالينَ عَنهُ وَلَم نَهجُرهُ قالينا
وَلا اِختِياراً تَجَنَّبناهُ عَن كَثَبٍ
:::لَكِن عَدَتنا عَلى كُرهٍ عَوادينا
نَأسى عَلَيكِ إِذا حُثَّت مُشَعشَعَةً
:::فينا الشَمولُ وَغَنّانا مُغَنّينا
لا أَكؤُسُ الراحِ تُبدي مِن شَمائِلِنا
:::سِيَما اِرتِياحٍ وَلا الأَوتارُ تُلهينا
في هذا المقطع من القصيدة يبدي الأسباب التي دفعته إلى التباكي والتشاكي من فقدان محبوبته، ويؤكد براءته من أي تهم قد يُتهَم بها بسسب القطيعة ويحاول استعطاف محبوبته علّها تعاود وصله، ويقول ابن زيدون أن لا عجب أن الحزن يرافقه وأن الصبر مفارقه، فهو مر بصنوف كثيرة من الأسى جعلته بهذا الحال، فيقول:
لا غَروَ في أَن ذَكَرنا الحُزنَ حينَ نَهَت
:::عَنهُ النُهى وَتَرَكنا الصَبرَ ناسينا
إِنّا قَرَأنا الأَسى يَومَ النَوى سُوَراً
:::مَكتوبَةً وَأَخَذنا الصَبرَ تَلقينا
يقرر الشاعر في نهاية هذا المقطع أن حزنه على فراقها سيظل حاضرًا في ذهنه، مهما حاول نسيانه بأي طريقة أو حاول أن يتناسى حزنه بالملهيات كالخمر أو مجالس الطرب فكل ما حاول نسيانها يجد نفسه يعاني من ذكرها وشوقه إليها.
شرح الأبيات من 46 إلى 51
دومي عَلى العَهدِ ما دُمنا مُحافِظَةً
:::فَالحُرُّ مَن دانَ إِنصافاً كَما دينا
فَما اِستَعَضنا خَليلاً مِنكِ يَحبِسُنا
:::وَلا اِستَفَدنا حَبيباً عَنكِ يَثنينا
وَلَو صَبا نَحوَنا مِن عُلوِ مَطلَعِهِ
:::بَدرُ الدُجى لَم يَكُن حاشاكِ يُصبينا
أَبكي وَفاءً وَإِن لَم تَبذُلي صِلَةً
:::فَالطَيّفُ يُقنِعُنا وَالذِكرُ يَكفينا
وَفي الجَوابِ مَتاعٌ إِن شَفَعتِ بِهِ
:::بيضَ الأَيادي الَّتي ما زِلتِ تولينا
عَلَيكِ مِنّا سَلامُ اللَهِ ما بَقِيَت
:::صَبابَةٌ بِكِ نُخفيها فَتَخفينا
في هذا المقطع يصارح الشاعر ولادة طالبًا منها أن تحافظ على العهد الذي قطعاه على نفسيهما ويؤكد أنه هو كذلك لن يستعيض عنها بحبيب آخر، فحبها يتملك قلبه ولن يستطيع حتى بدر الدجى لفته عن حبها، في نهاية رسالته لولادة يبكي من شدة وفائه لحبها ومستعطفًا إياها أنها لو أجابته فهذا طيب طبعها الذي اعتاد عليه، ويختم هذه الرسالة بالسلام عليها وعلى حبه لها الباقي طول بقائهما في الدنيا.