شرح قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها
شرح أبيات قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها
ألقى هذه القصيدة الشاعر العباسي أبو العلاء المعري ليرثي فيها صديقه الفقيه الحنفي أبا حمزة، و أبو العلاء المعري اسمه أحمد بن عبد الله بن سليمان بن محمد التنوخي ، من سكّان معرّة النعمان التي تتبع اليوم محافظة إدلب في سورية، كان شيخًا علّامة يُصنّف في الشعر مع المتنبي والبحتري، أصابه الجدري وهو ابن أربع سنوات فسبّب له العمى.
لم يكن من الشعراء الذين يتكسّبون من شعرهم، وكان قنوعًا لا يقبل من أحد شيئًا، ولا يأكل اللحم على سبيل الزّهد الفلسفي، كان عالمًا باللغة وله فيها مصنّفات وكتب، وله شروحات على دواوين شعراء كثر منهم: المتنبي والبحتري وأبو تمّام، ومن مؤلفاته المشهورة كتاب رسالة الغفران، يقول في قصيدته التي يرثي فيها صديقه الفقيه:
غَيْرُ مُجْدٍ في مِلّتي واعْتِقادي
:::نَوْحُ باكٍ ولا تَرَنّمُ شادِ
وشَبِيهٌ صَوْتُ النّعيّ إذا قِيـ
:::ـسَ بِصَوْتِ البَشيرِ في كلّ نادِ
أَبَكَتْ تِلْكُمُ الحَمَامَةُ أمْ غَنْـ
:::ـنَت عَلى فَرْعِ غُصْنِها المَيّادِ
صَاحِ هَذِي قُبُورُنا تَمْلأ الرُّحْـ
:::ـبَ فأينَ القُبُورُ مِنْ عَهدِ عادِ
خَفّفِ الوَطْء ما أظُنّ أدِيمَ الـ
:::ـأرْضِ إلاّ مِنْ هَذِهِ الأجْسادِ
وقَبيحٌ بنَا وإنْ قَدُمَ العَهْـ
:::ـدُ هَوَانُ الآبَاءِ والأجْدادِ
سِرْ إنِ اسْطَعتَ في الهَوَاءِ رُوَيدًا
:::لا اخْتِيالًا عَلى رُفَاتِ العِبادِ
رُبّ لَحْدٍ قَدْ صَارَ لَحْدًا مرارًا
:::ضَاحِكٍ مِنْ تَزَاحُمِ الأضْدادِ
وَدَفِينٍ عَلى بَقايا دَفِينٍ
:::في طَويلِ الأزْمانِ وَالآباءِ
يقول المعرّيّ في هذه الأبيات إنّ الدنيا هي دار فناء، فلا ينفع فيها النحيب ولا الفرح ولا الزهو ولا الاختيال، فلا فرق بين الحزن والفرح ما دام الخلود ليس مكتوبًا لإنسان، وهي مقدمة فلسفيّة تعبّر عن آراء المعري التي كان يؤمن بها، ثمّ يخاطب الحمائم ويطلب منها البكاء، و في ذلك استعداد لبدء رثاء صديقه الفقيه .
ثمّ يوجّه المعري الكلام لمن يتفاخرون في الدنيا أنّ الجميع مصيره للزوال ويضرب مثلًا قوم عاد المشهورين بأجسامهم الضخمة وأبنيتهم الشاهقة، ومع ذلك فقد ماتوا جميعًا، فالدنيا إلى زوال ولا داعي للاختيال فيها والتفاخر، فربّما قد صار جزء من الأرض قبرًا لكثير من الأشخاص على تطاول الزمان، وفي ذلك تأكيد لفكرة الفناء المحتوم.
تَعَبُ كُلّها الحَياةُ فَما أعْـ
:::ـجَبُ إلاّ مِنْ راغبٍ في ازْديادِ
إنّ حُزْنًا في ساعةِ المَوْتِ أضْعَا
:::فُ سُرُورٍ في ساعَةِ الميلادِ
خُلِقَ النّاسُ للبَقَاءِ فضَلّتْ
:::أُمّةٌ يَحْسَبُونَهُمْ للنّفادِ
إنّما يُنْقَلُونَ مِنْ دارِ أعْما
:::لٍ إلى دارِ شِقْوَةٍ أو رَشَادِ
ثمّ يتابع المعري فيقول إنّ الحياة دار تعب فكيف تطلب الناس البقاء فيها مدة طويلة، ويوازن المعري بين شعور الإنسان عند الولادة وعند الفقد وينتهي إلى أنّ شعور الحزن عند الموت أكبر من شعور السعادة عند الميلاد، وفي ذلك إشارة لمعناه الذي يدور حوله في القصيدة، وأخيرًا يخلص إلى أنّ الإنسان ينبغي له الاجتهاد في دار التعب هذه حتى يكون مصيره حسنًا في الآخرة.
ضَجْعَةُ المَوْتِ رَقْدَةٌ يُستريحُ الـ
:::ـجِسْمُ فيها والعَيشُ مِثلُ السّهادِ
قَصَدَ الدهر من أبي حَمزَةَ الأوْ
:::وَابِ مَوْلًى حِجًى وخِدن اقتصادِ
وفَقيهًا أفكارُهُ شِدْنَ للنّعْـ
:::ـمانِ ما لم يَشِدْهُ شعرُ زِيادِ
فالعِراقيُّ بَعْدَهُ للحِجازِيْ
:::يِ قليلُ الخِلافِ سَهْلُ القِيادِ
وخَطيبًا لو قامَ بَينَ وُحُوشٍ
:::عَلّمَ الضّارِياتِ بِرَّ النِّقَادِ
رَاوِيًا للحَديثِ لم يُحْوِجِ المَعْـ
:::ـرُوفَ مِنْ صِدْقِهِ إلى الأسْنادِ
أَنْفَقَ العُمرَ ناسِكًا يَطْلُبُ العِلْـ
:::ـمَ بكَشْفٍ عَن أصْلِهِ وانْتِقادِ
ذا بَنَانٍ لا تَلْمُسُ الذّهَبَ الأحْـ
:::ـمَرَ زُهْدًا في العَسجَدِ المُستَفادِ
وَدِّعا أيّها الحَفيّانِ ذاكَ الشْـ
:::ـشَخْصَ إنّ الوَداعَ أيسَرُ زَادِ
واغْسِلاهُ بالدّمعِ إنْ كانَ طُهْرًا
:::وادْفِناهُ بَيْنَ الحَشَى والفُؤادِ
واحْبُوَاهُ الأكْفانَ مِنْ وَرَقِ المُصْـ
:::ـحَفِ كِبْرًا عن أنْفَسِ الأبْرادِ
واتْلُوَا النّعْشَ بالقِراءَةِ والتّسْـ
:::ـبِيحِ لا بالنّحيبِ والتّعْدادِ
ينتقل المعري بعد ذلك إلى رثاء صديقه الفقيه فيقدّم لذلك ببيت يقول فيه إنّه بالموت يستريح الإنسان من هذه الدار الفانية التي ما تزيده إلّا تعبًا وهمًّا، ثمّ يبدأ بذكر مناقب الفقيد الفقيه فيذكر عبادته، وزهده، وعلمه الواسع، الذي قد ترك أثرًا في المذهب الحنفي الذي أسّسه النعمان بن ثابت المعروف بأبي حنيفة.
ثمّ يقول إنّه كان خطيبًا مفوّهًا وراويًا للحديث صادقًا وقد صرف جلّ عمره في طلب العلم، وليس من الذين يسعون للمال والجاه، ولكنّه يطمع في ثواب الآخرة، ثمّ يوصّي الذين يدفنونه أن يغسلوه ويكفّنوه بورق المصحف وفي ذلك كناية على تقواه وورعه، ويوصي الذين يشيّعونه ألّا يكون في تشييعهم نحيب ولكن يوصيهم بالتقوى وذكر الله وقراءة القرآن.
كُنتَ خِلّ الصِّبا فلَمّا أرادَ الـ
:::ـبَينَ وَافَقْتَ رأيَهُ في المُرادِ
ورأيتَ الوَفاءَ للصّاحِبِ الأوْ
:::وَلِ مِنْ شيمَةِ الكَريمِ الجَوادِ
وَخَلَعْتَ الشّبابَ غَضّاً فَيا لَيْـ
:::ـتَكَ أَبْلَيْتَهُ مَعَ الأنْدادِ
فاذْهَبا خير ذاهبَينِ حقيقَيْـ
:::ـنِ بِسُقْيا رَوائِحٍ وَغَوَادِ
ومَراثٍ لَوْ أنّهُنّ دُمُوعٌ
:::لمَحَوْنَ السّطُورَ في الإنْشادِ
يمضي المعري في قصيدته ويذكر ما كان الفقيد بالنسبة له، فهو صديق الصبا وملاعب الشباب وأنّه الصاحب الوفي الذي قد ذهب في ريعان شبابه، ويصف المعري حزنه الشديد عليه ويدعو له بالسقيا على عادة العرب في الدعاء لمن يحبون.
الأفكار الرئيسة في قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها
ضمّت قصيدة المعري كثيرًا من الفِكَر فيها، ومن أبرزها ما يأتي:
- حتمية الفناء وزوال الدنيا.
- عدم اغترار الناس بالدنيا، فليست دارًا للخلود.
- هلاك الأمم دليل على الفناء.
- حتمية الحساب في الآخرة وافتراق الناس بين جنة ونار.
- الموت راحة من الدنيا.
معاني المفردات في قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها
ضمّت القصيدة كثيرًا من المفردات ذات المعاني التي تحتاج إلى بيان، ومنها ما يأتي:
الكلمة | معناها |
الشادي | المعنّي، ومنه يقولون شدا العصفور إذا غنى. |
لحد | شقّ في القبر أسفل الجدار القبلي يوضع فيه الميت. |
الضاريات | الضاريات هي السباع التي اعتادت أكل اللحم. |
العسجد | العسجد هو الذهب. |
الحشى | الحشى هو ما يلي الحجاب الحاجز مما يلي البطن. |
الصور الفنية في قصيدة أبو العلاء المعري يرثي فقيها
مرّ في قصيدة المعري السالفة بعض الصور البيانية، منها ما يأتي:
- لحدٍ ضاحكٍ: استعارة مكنية، شبّه اللحد بإنسان يضحك، حذف المشبه به وهو الإنسان وأبقى على شيء من لوازمه وهو الضحك.
- أنفق العمر: استعارة مكنية، شبه العمر بالمال الذي يُنفق، فحذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه وهو الإنفاق.
- خلعَ الشباب: استعارة مكنية، شبه الشباب بالشيء الذي يُخلع، فحذف المشبه به وأبقى على شيء من لوازمه وهو الخلع.
يظهر أنّ قصيدة المعري السالفة تحمل بين طيّاتها كثيرًا من فلسفة المعري في الحياة والموت والنظرة إلى الآخرة، وتحمل كذلك مشاعرَ صادقة ومؤلمة تجاه صديقه الفقيه الفقيد.