شرح سورة الحشر
شرح سورة الحشر
نزلت سورة الحشر بعد سورة البيِّنة، وهي سورةٌ مدنيةٌ ، عدد آياتها 24 آية، وكان تاريخ نزولها في بداية السنة الرابعة للهجرة، وذلك بعد غزوة أحد، وقبل حدوث غزوة الأحزاب، والهدف الرئيسي من السورة هو الحديث عن غزوة بني النضير وما جرى خلالها من أحداث، والحديث عن صفات اليهود والمنافقين، بالإضافة إلى تربية نفوس المؤمنين، والتأكيد على معالم الإيمان.
غزوة بني النضير
- بعد المعاهدات التي وقّعها رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- مع اليهود الذين يسكنون المدينة ، والتي تقتضي ضمان الحرية الدينية لكلا الطرفين، والمعايشة السلمية، إلَّا أنّ يهود بني النضير أخلفوا العهد، وحاولوا قتل رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم-.
- فاستعد رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- لقتالهم وحاصرهم مدة ثلاثة أيام، وأمرهم بمغادرة المدينة المنورة ، فلمّا أرادوا الخروج أرسل إليهم المنافقون رسالةً يحرضونهم فيها على البقاء في ديارهم وحصونهم، ومقاومة أوامر المسلمين، وأخبروهم بأنّهم سيكونون معهم في حال قاتلوهم، وفي حال أخرجوهم سيخرجون معهم.
- وبيَّن الله -تعالى- كذب المنافقين وخداعهم، فلو قاتل اليهودُ المسلمينَ لما قاتلوا معهم، ولو خرجوا من ديارهم لما تبعوهم، إنما أرادوا الفتنة، قال -تعالى-: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ).
- لكن اليهود طمعوا في مناصرتهم؛ وبقوا في حصونهم، حتى ضيّق عليهم المسلمون الحصار، وقطعوا أشجار النخيل التي تحاوطهم، وقذف الله في قلوبهم الرعب، حتى طلبوا من رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أن يسمح لهم بأن يخرجوا من ديارهم ويأخذوا معهم كل مستلزماتهم ما عدا أدوات الحرب، فوافق رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- على ذلك، وخرج اليهود بعدما قاموا بتخريب بيوتهم؛ لكيلا يسكنها المسلمون من بعدهم.
حكم الفيء
بيّنت السورة الكريمة حكم الأموال التي رزقها الله -تعالى- لرسوله والمؤمنين من غزوة بني النضير، وهذه الأموال هي أموال الكفار التي حصل عليها المسلمون دون قتالٍ، وقد سماها الله بالفيء، فقام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بتقسيمه بين المهاجرين الذين تركوا ديارهم وأموالهم.
ولم يعط شيئًا منه للأنصار سوى للفقراء منهم، وهم: سهل بن حنيف، وأبو دجانة بن سماك، لكي لا يكون المال محصورًا في أيدي الأغنياء فقط، قال تعالى: (وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ).
جزاء تواطؤ المنافقين واليهود
وبعدما بيّن الله تعالى موقف المنافقين، وجاء الواقع موافقًا لما أخبر به الله -تعالى- رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، بشّر الله -تعالى- المؤمنين بنصرهم على اليهود والمنافقين، وهذا ما حدث فعلًا، حيث نصرهم الله -تعالى- وأخرج اليهود من جزيرة العرب، وسبب عدم نصر اليهود والمنافقين؛ أنّهم يخشون من المسلمين أكثر من خشيتهم من ربّهم، وذلك بسبب جهلهم، قال تعالى: (لَأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِم مِّنَ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَفْقَهُونَ).
من صفات اليهود والمنافقين
وصف الله -تعالى- اليهود والمنافقين في قتالهم للمؤمنين بأنّهم جبناء لا يقدرون على المواجهة والمبارزة، وإنّما يقاتلون من وراء حصونٍ تحميهم، وهم حتّى وإن كانوا يظهرون مجتمعين متّحدين، إلاَّ أنّهم في الواقع متفرّقون ضعفاء، قال تعالى: (لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَاءِ جُدُرٍ ۚ بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ۚ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ).
وأخبر -تعالى- بأنّه أصابهم ما أصاب الذين أظهروا العداء للإسلام قبلهم ككفار قريش في غزوة بدر ، ويهود بني قينقاع الذين أجلاهم رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من المدينة، وشبّه المنافقين واليهود بالشيطان الذي يوسوس للإنسان بالكفر، حتّى إذا كفر تبرّأ منه، وكان جزاء الشيطان والإنسان الذي اتبعه الخلود في جهنم، وهكذا جزاء اليهود والمنافقين.
الأمر بتقوى الله والإعداد للآخرة
بعدما بيّن الله تعالى حال اليهود والمنافقين، أمر الناس بالتقوى ، والتقوى هي اجتناب نهيه والقيام بأمره، وحثّ على العمل الصالح الذي يسوق الإنسان إلى الجنّة، وحذّر من كل عملٍ يؤدّي بصاحبه إلى النار، وأمر الناس بأن يحاسبوا أنفسهم، ويعلموا أنّ الله تعالى سيحاسبهم على جميع الأعمال التي تصدر منهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ ۖ وَاتَّقُوا اللَّهَ ۚ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ* وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ).
مكانة القرآن الكريم وعظمة أسماء الله الحسنى
بيّن الله -تعالى- في السورة الكريمة مكانة القرآن الكريم وعظمته، حيث وعظهم به لما حمل من أوامر ونواهي ووعود ووعيد، فمن حرمة القرآن الكريم أنّه لو نزل على جبلٍ لخشع وخضع منه، فأمر الله -تعالى- الإنسان وهو أضعف من الجبل أن يخشى الله، ويخشع لآياته.
قال تعالى: (لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ۚ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ)، ثمّ بيّن عظمة أسمائه الحسنى والتي تُثبت ربوبيّته، وتنزّهه عن غيره من المخلوقات.