شرح خطبة الوداع بالتفصيل
شرح خطبة الوداع بالتفصيل
كانت حجّة الوداع في السنة العاشرة من الهجرة، وهي أعظم حجّةٍ في التاريخ، وسُمّيت بهذا الاسم؛ لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- ودّع المسلمين فيها، ولم يحجّ بعدها، وتسمّى كذلك بحجّة الإسلام؛ لأنّ النبيّ لم يحجّ بعد فرض الحجّ غيرها، وتسمّى كذلك بحجّة البلاغ؛ لأنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- بلّغ كلّ ما يجب تبليغه من شرع الله تعالى.
وقد ضمّن النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في خطبه الكثير من الآداب والأحكام، وأكّد على قواعد الإسلام، وقد وفد إلى المدينة المنوّرة كثيرٌ من المسلمين؛ للخروج مع النبيّ -عليه الصلاة والسلام- إلى الحجّ؛ فخرج معه جمعٌ غفيرٌ منهم؛ ليشهدوا الحجّ معه، ويتعلّموا مناسكه منه.
نصّ خطبة حجة الوداع
وردت رواياتٌ عديدةٌ لخطبة النبيّ -عليه الصلاة والسلام- في حجّة الوداع، وفيما يأتي رواية مسلم في صحيحه، عن جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- أنّ رسول الله قال: (إنَّ دِمَاءَكُمْ وَأَمْوَالَكُمْ حَرَامٌ علَيْكُم، كَحُرْمَةِ يَومِكُمْ هذا، في شَهْرِكُمْ هذا، في بَلَدِكُمْ هذا، أَلَا كُلُّ شَيءٍ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وإنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِن دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بنِ الحَارِثِ، كانَ مُسْتَرْضِعًا في بَنِي سَعْدٍ، فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا؛ رِبَا عَبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ، فإنَّه مَوْضُوعٌ كُلُّهُ، فَاتَّقُوا اللَّهَ في النِّسَاءِ؛ فإنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بأَمَانِ اللهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بكَلِمَةِ اللهِ، وَلَكُمْ عليهنَّ أَنْ لا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فإنْ فَعَلْنَ ذلكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غيرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ علَيْكُم رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمَعروفِ، وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ ما لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إنِ اعْتَصَمْتُمْ به؛ كِتَابُ اللهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي، فَما أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟ قالوا: نَشْهَدُ أنَّكَ قدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقالَ بإصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إلى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إلى النَّاسِ: اللَّهُمَّ اشْهَدْ، اللَّهُمَّ اشْهَدْ، ثَلَاثَ مَرَّاتٍ).
شرح الخطبة
حرمة الدماء والأعراض والأموال
استهلّ النبيُّ - صلّى الله عليه وسلم - خطبته بتحريم الدّماء والأموال، وشبّه شدّة هذا التحريم بحُرمة يوم عرفة والأيام العشر من شهر ذي الحجة، في البلد الحرام مكة؛ إذ إنّ لمكة المكرّمة حرمةٌ عظيمةٌ فلا يُسفك فيها دمٌ، ولا يُقتل فيها طيرٌ، ولا تُقطع أشجارها، ولا تُلتقط لقيطته إلّا لمُنشدٍ أي باحثٍ عن صاحب هذه اللقيطة أو الشيء المفقود.
وأمّا عن حُرمة شهر ذي الحجَّة؛ فقد جعَل الله تبارك وتعالى عدَّة الشهور اثنَا عشر شهرًا، وجعل منها أربعةً حُرُم، ثلاثٌ تأتي متتاليةً، وهي: ذو القِعدة، وذو الحَجَّة، ومُحرَّم، وشهرٌ واحدٌ يأتي منفردًا، وهو رجب، والشاهد في كُل ذلك تعظيم شأن القتل وسلب الأموال، فلا يحلُّ دم امرئ مُسلمٍ، أمّا في ما يتعلّق بالأموال، فلا يأخذ أحدٌ من مال الآخر إلّا حلالاً وبحقِّ الله.
إبطال بعض أفعال الجاهلية
أبطل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كُلّ أمرٍ كان في الجاهلية، فالإسلام يَجُبُّ ما قبله، فلا كِبرٌ في الإسلام، ولا بطَر، ولا تفاخرٌ في الأنساب والأحساب، ودماءُ الجاهلية موضوعةٌ، وقد بدأ بمن هم من أقربائه؛ حيث وضع دم ابن ربيعة؛ أي ترك القصاص لما كان من قتلٍ في الجاهلية، وأبطل ربا العباس بن عبد المُطّلب، وإنّما خصّ الربا لما له من شديد عقوبة، حيث اللعنة والطرد من رحمة الله.
الوصيّة بإحسان معاملة النساء
ثمّ انتقل الخطاب إلى حُسن معاملة النساء، وخاصّة الزوجات حيث على الزوج أن يتّقي الله في معاملته معها دون ظلمٍ، أو جور، أو إنقاصٍ في المأكل والمشرب والمَلبس، وأمر بغضّ البصر؛ لصون المجتمع من الفواحش، وقد نبهت الخطبة على فعلٍ مشين وهو أن تسمح المرأة لمن يكرهه الرجل أن يُدخلهم إلى بيته بذلك ، فهذا من حقّ الرجل عليها، وعليها أن تطيعه في ذلك، فلا يدخل بيته إلّا من يُحب، وإن خالفت ذلك فعليه أن يُقوّمها ويلومها بالضرب غير المُبرّح، وقد أشار العلماء بأنّ الضرب هنا يكون بعود السواك مثلاً وذلك للفت انتباهها إلى فعلتها وليس بهدف الإيذاء أو التعنيف أو الإهانة.
الوصيّة بالاعتصام بالكتابة والسنة
بيّنت الخطبة أنّ النجاة الحقيقية تكون بالاعتصام -أي التمسّك- بكتاب الله والسنَّة الشريفة؛ فمن أراد الثبات فعليه أن يتمسَّك بهما، ففيهما سعادة الدنيا والآخرة، ولم يدع القرآن الكريم ولا السنة خيرًا إلّا وأمرا به، أمّا ما كان فيه شرٌ فقد نهيا عنه، وفي خاتمة الخطبة برّأ رسول الله -صلى الله عليه وسلّم- نفسه بعدما بيَّن للناس هذه الأمور الهامّة باعتبارها دستورًا صالحًا لكلّ الأوقات والأزمان حتّى قيام الساعة، قائلاً: (اللهم اشهَد، اللهم اشهَد)؛ بأنّي قد أدّيت الأمانة، ونصحت الأمة.