شرح خطبة الوداع
حجة الوداع
فرض الله -تعالى- الحجّ على المسلمين في العام السادس من الهجرة، وكان المسلمون قبل ذلك يحجّون مع المشركين حتى أنزل الله قوله: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنوا إِنَّمَا المُشرِكونَ نَجَسٌ فَلا يَقرَبُوا المَسجِدَ الحَرامَ بَعدَ عامِهِم هـذا وَإِن خِفتُم عَيلَةً فَسَوفَ يُغنيكُمُ اللَّـهُ مِن فَضلِهِ إِن شاءَ إِنَّ اللَّـهَ عَليمٌ حَكيمٌ)، وكان ذلك في العام التاسع من الهجرة، وقد استجاب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لأمر الله -تعالى- وخرج في العام العاشر من الهجرة لأداء مناسك الحجّ ، وقد حجّ معه أكثر من مئة ألفٍ من المسلمين، وسمّيت هذه الحجّة بحجة البلاغ؛ لأنّ النبي الكريم كان يقول في خطبته: (أَلا هل بلغت؟) ويُشهدهم على ذلك، وسميت كذلك بحجّة الإسلام؛ لأنّها حجّة النبي الوحيدة التي أدّاها بعد فرضيته، كما سميت حجة الوداع ؛ لأنّ النبي -عليه السلام- ودّع فيها أمته قائلاً: (إنّي لا أدري لعلي لا أَلْقاكُم بعد عامي هذا بهذا الموقف أبداً).
خطبة الوداع
يظهر من خلال استقراء الروايات الصحيحة التي تناولت أحداث حجّة الوداع أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قد قام خطيباً في الناس في مواقف ومواضع مختلفةٍ، ويمكن حصر تلك الخطب في ثلاثة مواقفٍ، الأولى يوم عرفة، والثانية في العاشر من ذي الحجّة بمنى، والثالثة كانت أوسط أيام التشريق بمنى، وفيما يأتي نصوص الخطب التي جاءت بها الروايات:
خطبة الرسول في عرفات
يوم الوقوف بعرفة اجتمع على النبي -صلّى الله عليه وسلّم- جمعٌ كبيرٌ من المسلمين؛ فوقف فيهم خطيباً ، وقال: (إنَّ دماءَكم وأموالَكم حرامٌ عليكم كحُرمةِ يومِكم هذا في شهرِكم هذا في بلدِكم هذا، ألا كلُّ شيءٍ مِن أمرِ الجاهليَّةِ تحتَ قدَميَّ موضوعٌ، ودماءُ الجاهليَّةِ موضوعةٌ، وإنَّ أوَّلَ دمٍ أضَعُ مِن دمائِنا دمُ ابنِ ربيعةَ بنِ الحارثِ -كان مُسترضَعًا في بني ليثٍ فقتَلتْه هُذيلٌ-، فاتَّقوا اللهَ في النِّساءِ؛ فإنَّكم أخَذْتُموهنَّ بأمانِ اللهِ، واستحلَلْتُم فروجَهنَّ بكلمةِ اللهِ، ولكم عليهنَّ ألَّا يُوطِئْنَ فُرُشَكم أحدًا تكرَهونَه؛ فإنْ فعَلْنَ ذلك فاضرِبوهنَّ ضربًا غيرَ مُبرِّحٍ، ولهنَّ عليكم رزقُهنَّ وكسوتُهنَّ بالمعروفِ، وقد ترَكْتُ فيكم ما لَنْ تضِلُّوا بعدَه إنِ اعتصَمْتُم به: كتابَ اللهِ، وأنتم تُسأَلونَ عنِّي فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهَدُ أنْ قد بلَّغْتَ فأدَّيْتَ ونصَحْتَ؛ فقال بإصبَعِه السَّبَّابةِ يرفَعُها إلى السَّماءِ وينكُتُها إلى النَّاسِ: اللَّهمَّ اشهَدْ ثلاثَ مرَّاتٍ).
خطبة الرسول يوم النحر
كان أيضاً ليوم النّحر نصيبٌ من خطاب النبي -صلّى الله عليه وسلّم- لجموع المسلمين؛ فقد خطب خطبةً بليغةً، وقد جاءت عديد الروايات تنقلها، ومن تلك الروايات:
- روى نفيع بن الحارث -رضي الله عنه- أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (إنَّ دماءكُم وأموالَكم وأعراضَكم عليكم حرامٌ، كحرمةِ يومِكم هذا، في بلدِكم هذا، في شهرِكم هذا، وستلقونَ ربَّكم فيسألُكم عن أعمالِكم، ألاَ فلاَ ترجِعوا بعدي ضُلَّالاً، يضرِبُ بعضُكم رقابَ بعضٍ، ألاَ ليبلِّغِ الشَّاهدُ الغائبَ، فلعلَّ بعضَ من يبلغُهُ أن يكونَ أوعى لهُ من بعضِ من سمِعَهُ).
- رُوي عن عمرو بن الأحوص -رضي الله عنه- قوله: سمعتُ رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يقول في حجّة الوداع للناس: (أيُّ يومٍ هذا؟ قالوا: يومُ الحجِّ الأَكبَرِ، قالَ: فإنَّ دماءَكم وأموالَكم وأعراضَكم بينَكم حرامٌ كحُرمةِ يومِكم هذا في بلدِكم هذا، أَلا لا يَجني جانٍ إلَّا على نفسِهِ، وألا لا يجني جانٍ على ولدِهِ ولا مولودٌ على والدِهِ، ألا وإنَّ الشَّيطانَ قد أيِسَ أن يُعبَدَ في بلادِكم هذَه أبداً، ولَكن ستكونُ لهُ طاعةٌ فيما تحتقِرونَ من أعمالِكم فسيَرضى بِه).
- رُوي عن أبي أمامة الباهلي -رضي الله عنه- قوله: سمعت رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- يخطب في حجّة الوداع؛ فقال: (اتقوا اللهَ ربكُم، وصلّوا خمسكُم، وصُومُوا شهركُم، وأدّوا زكاةَ أموالكُم، وأطيعُوا ذا أمركُم، تدخُلوا جنةَ ربكُم).
خطبة أيام التشريق
وفي أوسط أيام التشريق ، وقف النبي -صلّى الله عليه وسلّم- خطيباً بالمسلمين، حيث أكدّ على كثيرٍ من الأسس والقيم السلوكية التي نادى بها في خطبه السابقة يوم عرفة ويوم النحر، حيث جدّد التذكير بحُرمة دماء المسلمين وأموالهم وأعراضهم، وربط تلك الحُرمات بحُرمة أِشهر الحجّ ومكانه بلد الله الحرام ، لا شكّ أنّ هذا التكرار يحمل دلالاتٍ واضحةٍ على شدّة وعظمة العناية بالأنفس وصيانة الأموال ومهابة الأعراض، كما ذكّر الناس بمرجعهم إلى ربهم، وأنّهم سيسألون عن أعمالهم، وتكرّر الأمر كذلك بتبليغ وصاياه لمن لم يحضرها من الناس، وحملتْ هذه الخطبة إشارةً واضحةً على دنوّ وقرب وفاة النبي -صلّى الله عليه وسلّم- حيث ودّعهم وداع المُفارق، وبالفعل فإنّه لم يطُل بقاءه في الدنيا بعد حجّة الوداع.
شرح خطبة الوداع
يُلاحظ المتأمّل بما ورد على لسان النبي -صلّى الله عليه وسلّم- في خطبه السابقة في حجّة الوداع أنها ركزّت على قضايا هامةٍ، ويمكن شرح هذه المحاور بما يأتي:
- التأكيد على تغليظ حرمة الدماء والأموال والأعراض، وبيان حُرمة الخصومات والمشاحنات والاقتتال بين المسلمين؛ فقد عظّم الإسلام حُرمة سفك الدماء، كما شدّد على ضرورة المحافظة على أموال الناس وحمايتها من الغصب أو السرقة، سواءً كانت أمولاً عامةً أم خاصةً، وشدّد الدين العظيم على حُرمة غصب الأموال وسرقتها، سواء كانت أموالاً عامةً أو أموالاً خاصةً، وهذه التوجيهات النبوية الراشدة كلها تصبّ في مقاصد الشريعة التي تدعو إلى حفظ الضرورات الخمس، وأهمها: النفوس والأموال والأعراض، وهذا ناشىٌ عن عقيدةٍ سمحةٍ تحترم المسلم وتحفظ له كيانه ومقومات وجوده، وتحقن دمائه، بل إنّ العقيدة الإسلامية ترفع شعار الإحسان مع المسلمين وغير المسلمين، وهي تدعو إلى آفاق أوسع في باب الإحسان ليشمل النباتات والحيوانات.
- تحريم الأخذ بالثأر وإبطال عادات الجاهلية التي تُجيز للإنسان أن يقيم حدّاً أو يثأر لنفسه دون الرجوع رفع الأمر إلى ولي الأمر والقضاء؛ فالدولة في الإسلام هي الملزمة بالحفاظ على النظام العام وحماية أرواح الرعية، وهي ملزمةٌ كذلك بتنفيذ العقوبات وإقامة الحدود على من يستوجب فعله ذلك، وفي سبيل التغليظ على الإساءة إلى النّفس المؤمنة يقول النبي -صلّى الله عليه وسلّم- فيما يرويه أبو الدرداء رضي الله عنه: (كلُّ ذنبٍ عسَى اللهُ أنْ يَغفِرَهُ، إلَّا مَن مات مُشْرِكاً، أوْ مُؤْمِنٌ قَتَل مؤمِناً مُتعمِّداً)، وفي حديثٍ آخرٍ عن عبادة بن الصامت عن رسول الله -صلّى الله عليه وسلّم- أنّه قال: (مَن قَتَل مُؤْمِناً فاغتَبَطَ بقَتْلِهِ لم يَقْبَلِ اللهُ منه صَرْفاً ولا عَدْلاً).
- تحريم الرّبا بكلّ صوره، وهذا الأمر محسومٌ في التشريع الإسلامي فقد أحلّ الله -سبحانه- البيع، وحرّم الربا، وقد كان الأمر بتحريم الربا والتشنيع على المصرّين عليه من آخر الآيات نزولاً في القرآن الكريم، حيث يقول الله عزّ وجلّ: (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِى يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَـانُ مِنَ الْمَسّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرّبَاْ وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرّبَا)، وفي موضعٍ آخرٍ من سورة البقرة يقول الله سبحانه: (فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَإِن تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ وَلاَ تُظْلَمُونَ)، ولا شكّ أنّ الإسلام عندما حرّم الربا وشدّد على حرمته كان حريصاً على حماية أموال الناس وأميناً في الدعوة إلى الاستثمار ونمو الاقتصاد، ودائماً تكشف الأزمات المالية العالمية أنّ منهج الإسلام في المعاملات المالية هو المنهج الذي يضمن حماية أموال الناس.
- التحذير من غواية الشيطان وساوسه، واحترام الأسس والقيم التي لا تتعارض مع مبادئ الشريعة الإسلامية، فقد أقرّ الإسلام ما استقرّ عليه أهل الجاهلية من أمر تعظيم الأشهر الحرم، وبين حرمة ما كان يفعله الناس في الجاهلية من الوقوع في النسيء وهو تأجيل الأشهر الحرم أو أحد أشهره ليكملوا القتال، قال الله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ).
- أكّد النبي -صلّى الله عليه وسلّم- على أمر تعظيم مكة المكرمة ، وبيّن فضلها ومنزلتها، وقد تفضّل الله -سبحانه- بأنْ جعلها حرماً آمناً؛ فحرّم الاعتداء والعدوان فيها كا حرّم ترويع الآمنين، بل جاء الأمر بتحريم الاعتداء على الشجر والحيوانات غير الضارة، وتأكيداً لحُرمة البلد الحرام فقد أقسم بها المولى -تبارك وتعالى- في مُحكم التنزيل فقال: (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، وقد تأكّدت حُرمتها بعد الفتح حيث رسّخ النبي -عليه الصلاة والسلام- فيها دعائم التوحيد، ونشر العدل والمساواة وأرسى قيم العفو والتّسامح والسلم المجتمعي.
- الحثّ على رعاية حقوق النساء، وأنّ الإحسان إلى الزوجة من واجبات الزوج، لا فضلاً منه عليها، وعلى المسلم أنْ يدرك أنّ الزوجة ليست ملاكاً معصوماً عن الأخطاء، وهذا يُوجب عليه أنْ يتفهّم بعض ما قد يقع منها من أخطاءٍ بسعة صدرٍ، قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً إِنْ كَرِهَ مِنْهَا خُلُقاً رَضِيَ مِنْهَا آخَرَ).
- التركيز على اعتبار المؤمنين إخوةٌ، أخوّةٌ تقوم على أساس رباط العقيدة الوثيق، وهو رباطٌ يُقدّم على كلّ الروابط الأخرى التي تقوم على النسب والقرابة والدم، وقد كان هذا منهجاً عملياً له أولويةٌ في الدولة الإسلامية، حيث تمثّل بأبهى صوره عندما آخى النبي -صلّى الله عليه وسلّم- بين المهاجرين والأنصار، ولقد أثنى المولى -سبحانه- على نبيّه محمدًا -عليه الصلاة والسلام- وأصحابه الكرام -رضوان الله عليهم- عندما وصفهم بقوله: (مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى ألْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَـاهُمْ فِى وُجُوهِهِمْ مّنْ أَثَرِ السُّجُودِ)، ولذا كان تحذير النبي -عليه السلام- شديداً من العودة إلى الاقتتال فيما بينهم ونبذ الأسباب التي تقود للخصومات.
- الدعوة إلى الاعتصام بالقرآن الكريم والسنة النبوية على اعتبار أنّهما سبيل النجاة والخلاص، وهما المنهج الثابت لتحقيق التمكين والتقدّم الحضاري، وتحمل هذه الدّعوة إشارةً إلى نبذ المناهج الأرضية البشرية، التي تثبت فشلها على الدوام، وصدق الله إذ يقول: (وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ).
- التأكيد على حقيقة بالغة الأهمية وهي أنّ التفاضل بين البشر قائمٌ على أساس التقوى، وأنّه لا فضل لعربيٍ على أعجميٍ، ولا لأعجميٍ على عربيٍ إلّا بالتقوى، وبهذا يكون الإسلام السّباق إلى إلغاء كلّ ألوان التمييز العنصري بين البشر.
- حملت خطبة الوداع الدعوة إلى احترام الحقوق وعدم الإجحاف في الوصية، كما أوصى المسلمين بضرورة التخلّص من عادات الجاهلية في توزيع التركة وذلك عن طريق الانقياد لأحكام الشرع في تقسيم الميراث ، وفي هذا يقول النبي صلّى الله عليه وسلّم: (إنَّ اللَّهَ قسمَ لِكلِّ وارثٍ نصيبَهُ منَ الميراث، فلا يجوزُ لوارثٍ وصيَّةٌ).