شرح آية (عفا الله عما سلف)
سياق الآية ومناسبتها
ورد هذا المقطع من الآية في أثناء بيان حكم الصيد أثناء الإحرام، فقد ابتدأت الآية من قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ)، فلا تصطادوا ما يحل أكله من الحيوانات البرية، أما غير المأكول فيحل قتله؛ لأنه لا هدف للإنسان بصيده إلا للخشية من أذاه المتوقع، ثم تحدثت الآية الكريمة عن كفارة الصيد أثناء الإحرام بذبح هدي مماثل للصيد أو الصيام لعدة أيام بتفصيل موجود في كتب الفقه.
ولكن لمَّا كان من عادة القرآن المطّردة أن يعقب التهديد الموجَّه للمسلمين، بالرحمة التي تعوَّدوا عليها من ربهم سبحانه وتعالى، فخاطبهم بما تعوَّدوا عليه من اللين بعد الشدة قائلاً لهم: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)، فبلغهم بأن الله عفا عما قتلتم من الصيد قبل هذا البيان، ثم عاد للوعيد قائلاً: (وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ)، أي: ومن عاد إلى قتل الصيد وهو محرم فالله ينتقم منه.
المعنى العام لقوله تعالى: (عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ)
هذا النصُّ القرآني وضع قاعدة دستورية راقية في التعامل مع أخطاء الناس وضبطهم بالقوانين الناظمة لعلاقة الناس فيما بينهم ومع الكون والحياة، فهكذا يكون الدستور العادل لكل خليفة حكيم متمكن في الأرض، وهكذا تكون الرعاية التامة لمصالح الناس وعدم ظلمهم؛ فحين وضع القرآن عقوبة على مَن أخطأ وصاد وهو محرم، فقد نبَّه إلى أنه لن يؤاخذ الناس بما قبل القانون؛ فلا عقوبة إلّا بنص ولا تجريم إلّا بعد النص.
وهذا الحكم متوافق مع أصول الإسلام العامة التي تؤسّس لمبدأ أساس من مبادئ الإسلام، وهو مبدأ أن الإسلام يجُبُّ ما قبله، وأنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها، وذلك لِما انبنى عليه دين الإسلام من سماحة ورحمة وعفو، فمهما اقتحم المشركون والفسقة من المعاصي التي تستحق العقوبات، وارتكبوا من الموبقات التي تؤهلهم لسخط الله، ولكنهم إذا أسلموا وجوههم لله واستغفروا، ستنالهم المغفرة وتقبل توبتهم؛ تأليفاً لهم.
شروط التوبة التي تعين على العفو عمّا سلف
بشَّر القرآن التائبين بأنَّ قبول التوبة سهل يسير؛ لأنه صادر من إله عادته قبول التوبة، قال -تعالى- متحدثاً عن نفسه جل جلاله: (وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى)، فقد خبّر الإله العاصين بأنه كثير المغفرة والرحمة، لمن حقق شروط التوبة، فأعقب توبته بالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، ثم أعقب إيمانه بعمل الصالحات من أعمال القلب والبدن، وأقوال اللسان.
والمهم للتائب -حتى يعفو الله عنه ما قد سلف- أن يُصلح ما أفسده أثناء كفره أو معصيته؛ بردِّ حقوق الناس إليهم قال تعالى -بعد بيان حد السرقة-: (فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ)، أي: كل مَن تاب واستغفر مِن السرقة، بعدَ ظلمه بسرقته المال الذي ليس له، وأصلح ما أفسده بردِّ المسروق، فإن الله يقبل توبته فيغفر ذنبه ويرحمه.