سيرة حياة محي الدين بن عربي
نشأة محي الدين بن عربي وحياته
هو محمد بن علي بن محمد بن عربي أبو عبد الله الحاتمي، ولد في (17) أو (27) من شهر رمضان عام 560 هـ المصادف (27) يوليو عام 1165م، في مدينة مرسية في الأندلس (إسبانيا في الوقت الراهن) لعائلة من أصول عربية، وفدت إلى الأندلس مع حركات الفتح الإسلامية.
والده ذو مركز مهم لدى حاكم مرسيه، وهو الأمر الذي اضطرهم لمغادرتها إلى مدينة إشبيلية بعد أن سقطت في يد الموحدين، وكان عمره حينها ثمانية أعوام، وفي مدينة إشبيلية نشأ محي الدين بن عربي، وقد قُدّر له أن يلتحق بالعمل في سلك الجيش، إلا أنه اختار مسلكًا آخر، خاصة بعد رؤيته لحلم أو رؤيا غيّرت مسار حياته.
تذكُر كتب التاريخ أنّ ابن عربي شاهد في حلم أنّ أحد الأمراء في موقف ذليل، فقرر أن ترتبط حياته بالله وحده عز وجل، حيث أتم سن العشرين من العمر حينها، وتزوج من امرأة تدعى مريم بنت محمد بن عبدون بن عبد الرحمن البجاني، وهي امرأة صالحة وذات نسب كريم.
قرر السفر إلى مكة المكرمة وأقام فيها سنتين، ثم رحل مع قوافل الحجاج إلى قونية في تركيا، ثم سافر إلى مدينة بغداد، وبعد ذلك قرر تركها ليستقر في مدينة دمشق حتى وفاته، حيث عاش فيها ما يقارب (17) عامًا، وتوفي وهو عمره (76) عامًا ودفن في دمشق.
درس مختلف العلوم الإسلامية على يد العلماء في الأندلس، لقب ابن عربي بـ"الشيخ الأكبر" لإلمامه الغزير بمختلف علوم القرآن واللغة وعلم النفس والقانون الفلسفة والكون، ونال شهرة واسعة، فهو أول من أعطى البعد الباطني للفكر الإسلامي تفسيرًا فلسفيًّا كاملًا من خلال كتاباته، ولعل من أهم كتبه: كتاب الفتوحات المكية .
مذهب ابن عربي وعقيدته
يرى الكثير من الفقهاء أنّ ابن عربي اعتنق المذهب الظاهري، إذ كانت تقوم عقيدته على فكرة الزهد في الدنيا وملذاتها والتصوف.
وكلاهما كانتا الوسيلتين التي اتخذهما ابن عربي للكشف عن الحقيقة الكاملة وبلوغ السعادة، فراح يزيح الستار عن الكثير من المواقف والعقائد والمذاهب في فكرتها عن الكون وخالقه.
وقد تمكن ابن عربي من إبراز الكثير من الأمور التي تجتمع عليها تلك العقائد الدينية والمذاهب الإسلامية، وبيّن أن هناك الكثير من التناقضات والاختلافات بين تلك المذاهب، ليقرر في آخر الأمر أنّ الإنسان المثالي هو الذي يتمكن من فهم الدين وجوهره بشكل صحيح، وفقًا لما يعتقده ويراه صحيحًا من منظوره الشخصي.
فكر ابن عربي: وحدة الوجود
يقوم مذهب ابن عربي على نظرية الكلمة، إذ استخدم ما يقارب (22) مصطلحًا من أجل أن يوضّح فكرته الشخصية ويعرف بها للناس، فراح يؤكد على الجانب الإنساني للكلمة، وعلى العلاقة المشتركة بين الله والإنسان إلى حد رأى فيه أنّ وجود الإنسان ضروريّ لوجود الله، والسبب أن الإنسان أظهر كمال الخالق عز وجل.
يرى أن وجود الله في حياة الإنسان هو ضروري وأساسي، حتى يتمكن من العيش بحرية وكرامة، كما أكد ابن عربيّ أن الإنسان وفقًا لما يراه هو ذو طبيعة متفائلة وليس متشائمًا، وأنّ القرآن وهو الخطاب الكوني عبّر عن البنية الداخلية للعالم، والعالم في الوقت ذاته ما هو إلا قرآن شاسع كبير المعنى والوجود.
رحلات ابن عربي
كان ابن عربي كثير الحل والترحال، يسعى في مجمل هذه الرحلات إلى الكشف عن حقائق الأمور التي تشغل باله ويقصد كبار العلماء والفقهاء، ولعل من أهم تلك الرحلات ما يأتي:
- الرحلة إلى مورور
وهي من أولى الرحلات التي قام بها ابن عربي إلى مدينة مورور؛ حيث كان يسعى إلى لقاء الشيخ الصوفي والعالم الجليل عبد الله الموروري وهو عالم وفقيه في علم التصوف فرغب ابن عربي لقاءه من أجل أن يتعلم أصول هذا العلم الذي كان مولعًا به إلى حد كبير.
- الرحلة إلى غرناطة
سعى العالم ابن عربي إلى السفر إلى مدينة غرناطة إحدى مدن الأندلس؛ وذلك رغبة منه في لقاء الشيخ الجليل أبي محمد عبد الله الشكاز، وهو من أهل باغة في غرناطة، حيث عرف عنه العلم الواسع والتفقه في أصول الدين.
- الرحلة إلى القدس
وهي الرحلة التي خرج إليها ابن عربي قاصدًا زيارة بيت المقدس، ومن خلالها وضع كتابه الشهير الإسراء إلى مقام الأسرى، وكان الهدف من هذه الرحلة الطويلة البحث عن أهل الوجود والتحقيق، وهم كبار المتصوفة الذين أفنوا حياتهم في هذا النوع من العلوم.
كتب ابن عربي
ترك ابن عربي الكثير من المؤلفات والكتب القيمة والنفيسة، ولعل من أهم تلك الكتب ما يأتي:
- الوصايا
كتاب مطبوع ومنشور عام 1982م وهو أحد أبواب كتاب الفتوحات المكية الشهير، بل هو حقيقة الأمر فصل منه جرى طباعته بشكل منفرد لأهمية ما جاء فيه من وصايا تربوية تهدف إلى التعريف بالطريق إلى طاعة الله عز وجل.
- فصوص الحكم
كتاب مطبوع ومنشور عام 2016م، وهو أحد الكتب القيمة لابن عربي، حيث ناقش فيه كل ما يتعلق بالعقيدة الصوفية في عصر ابن عربي والأجيال التالية له، كما طرح للنقاش كل ما يتعلق بمبدأ وحدة الوجود.
- شجرة الكون
كتاب مطبوع ومنشور عام 1985م، ويعد من الكتب القيمة والنفيسة، وفيه بحث ابن عربي عن حقيقة الكون الواسع بما فيه وما عليه، فسبر أغواره العميقة محاولًا الوصول إلى وضع صورة شاملة وعامة عنه.
أبرز الآراء النقدية حول ابن عربي
تعرّض ابن عربي للكثير من الانتقادات التي طالت منهجه الفكري وعقيدته، ولعل من أهم تلك الآراء ما يأتي:
- أبو حامد الغزالي
وهو من المعارضين لفكر ابن عربي في كثير من الجزئيات، إذ كان يرى أنّ الله ينبغي أن يُعرف بالعقل، وكان مخالفًا لما ذهب إليه ابن عربي الذي يرى أن الله عز وجل ينبغي أن يُعرف بالحواس والذوق.
- ابن قيم الجوزية
يرى العالم الجليل ابن قيم الجوزية أنه من المحال تطبيق فكرة الحلول والاتحاد وفكرة وحدة الوجود التي جاء بها ابن عربي، ويطرح طرقًا أخرى للتواصل مع الباري عز وجل، وبالتأكيد لها معانٍ أخرى غير ما جاء بها بن عربي.
- كمال محمد عيسى
يرى أن أيّ رأي قال به ابن عربي وورد عنه في كتبه بغض النظر عن كونه هو قائلها أو أنها مدسوسة إليه، وسواء قالها في حالة من التأمل أم الصفاء الذهني وسواء آمن بها أم رجع عنها فهو آثم.
أقوال ابن عربي
هناك الكثير من الأقوال التي وردت عن ابن عربي في كتبه ومؤلفاته، ولعل من أهمها ما يأتي:
- قال في كتاب الفتوحات الإسلامية:
"شوق بتحصيل الوصال يزول والاشتياق مع الوصال يكون، إن التخيل للفراق يديمه عند اللقاء فربه مغبون، من قال هون صعبة قلنا له ما كل صعب في الوجود يهون، هو من صفات العشق لا من غيره والعشق داء في القلوب دفين".
- قال في كتاب الوصايا:
"إذا عصيت الله موضع فلا تبرح من ذلك المكان حتى تعمل فيه طاعة وتقيم فيه عبادة، فكما يشهد عليك إذا استشهد لك وحينئذ تنتزح عنه".
- قال في كتاب الوصايا:
"حسِّنْ الظن بربّك على كل حال، ولا تسيء الظنّ فإنك لا تدري: هل أنت على آخر أنفاسك في كل نفس يخرج منك، فتموت فتلقى الله على حسن الظن به لا على سوء ظن".