سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله
السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلَّا ظله
أخرج الإمامُ البُخاري -رحمه الله- في صحيحه أنّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَومَ القِيَامَةِ في ظِلِّهِ، يَومَ لا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ: إِمَامٌ عَادِلٌ، وَشَابٌّ نَشَأَ في عِبَادَةِ اللَّهِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ في خَلَاءٍ فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ في المَسْجِدِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا في اللَّهِ، وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ إلى نَفْسِهَا، قالَ: إنِّي أَخَافُ اللَّهَ، وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ بِصَدَقَةٍ فأخْفَاهَا حتَّى لا تَعْلَمَ شِمَالُهُ ما صَنَعَتْ يَمِينُهُ).
والجامِعَ بينَ هذه الأصناف السَّبعة هو مجاهدةُ النَّفسُ والانتصار على حبِّ الدُّنيا والتَّعلُّق بها، ومن العلماء من يرى شمول الحديثِ في معناه لأصنافٍ أخرى غيرَ الأصنافِ السَّبعة ليزيدَ عليهم في ذلك ما كان من شأنه تحقيقُ المعنى المُراد من ذكِرِ هذه الأصناف، إذ يرى الإمامُ السيوطي -رحمه الله- دخولَ ستينَ صنفاً تحتَ هذه الأصنافِ.
الإمام العادل
إنَّ الفئة الأُولى من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي الإمام العادل، وهو والي أمر المسلمين الذي يقيمُ شرعَ الله -تعالى- فيهم، ويسعى لتحقيق مصالِحهم ودرءِ المفاسِد عنهم، وينصرُ المظلومَ منهم وينصحُ السائِلَ، ويأخذُ بيدِ المُحتاجينَ والفقراء، ويدخلُ في حكمهِ كلُّ من تولَّى أمرَ فئةٍ من النَّاسِ؛ كالملكِ والوزيرِ والنُّوابُ إن هُم عدلوا واتَّقوا الله -تعالى-.
وقد تقدَّمَت هذه الفئةُ على سائر الفئاتِ الأُخرى في الحديثِ لعمومِ نفعها، إذ يرتبطُ صلاحُ الرَّعية بصلاحِ الرَّاعي، ومن النَّماذجِ الخيِّرة لذلكَ الخليفةُ الأوَّل بعد رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: أبو بكر الصِّديق، ثمّ عمر بن الخطَّاب ، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طال -رضي الله عنهم أجمعين- وغيرهم من الخلفاء، إذ كانَ فيهم خيرَ مثالٍ للإمامِ العادل المُتَّبِع للقرآنِ الكريمِ والسنَّة الشَّريفة.
الشاب الناشئ في عبادة الله
الفئة الثَّانية من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة الشَّباب الذين نشؤوا في طاعة الله -عزَّ وجل-، أي الذين ترعرعوا على حبِّ الله -تعالى- ورسوله -صلى الله عليه وسلم-، ويقتدونَ به في أمورِ حياتهم، والذين يتمتَّعونَ بالأخلاقِ الحسنة، وينتهونَ عن صغائر الذّنوبِ وكبائرها، فيغلقونَ أبوابَ الهوى وحبّ الدُّنيا، ولا يخضعُون لها، ويكونُ الواحدُ منهم خيرَ جليسٍ إذا تجالسَ، وخيرُ ناصحٍ إذا سُئِلَ، وخيرُ أمينٍ إذا اؤتمنَ.
وقدَ حلَّت هذه الفئةُ في المرتبةِ الثَّانية في الحديثِ؛ لأنَّها الفئة الأكثرُ عرضةً لاتِّباعِ الهوى والافتتانُ بالدُّنيا، وبالتَّالي استحقَّ تارِكهاُ أن يكونَ ممَّن ينالُ هذه المرتبةَ العظيمة، كما أنَّ الحديثَ يشيرُ إلى أهميَّةِ تربيةِ الأولادِ على طاعةِ الله -عزَّ وجل-، وحُسنِ تنشِئتهمِ على الدِّين وتركِ اتِّباعِ الهوى، حتى ينالوا هذه المرتبةِ العظيمة، وقد قال الله -تعالى- في سورة التَّحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ).
رجل ذكر الله في خلاء ففاضت عيناه
الفئة الثَّالثة من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة النَّاس الذين يتَّقونَ الله في الخلوات ، وتقوى الله -عزَّ وجل- سهلٌ على المسلمِ إذا راقبهُ أحدٌ من النَّاس خشيةَ أن يعلموا بمعصيته، ولكنَّها قد تَصعُبُ عليه حينما لا يراقبهُ أحدٌ منهم، فقد تحثُّهُ نفسهُ على المعصيةِ في الخلوات لأنّ الناس لا يعرفون بأمره حينئذٍ، فإذا تذكّرَ أنَّ الله -عزَّ وجل- ذا القوَّة والجبروت يراقِبُهُ في سرِّه وعلنه، استحضر عظمته وعذابه وقوَّته.
وخشيَ أن يمسَّه منه شيءٌ وبكى من خوفه وشوقه لخالقهِ؛ فاستحقَّ بهذا نيلَ هذه المرتبة العظيمة، ويغلبُ في البكاءِ من خشيةِ الله -تعالى- في الخلواتِ أن يكونَ خالصاً لله -عزَّ وجل-، فإذا كانَ البُكاءُ رياءً أو تمثيلاً خرجَ من كونه خالصاً لله -عزَّ وجل- ولم يستحقَّ صاحبه هذه المرتبة ولا غيرها.
رجل تعلَّق بالمسجد
الفئة الرَّابعة من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة النَّاس المُتعلِّقة بالمساجد، و المساجد هي بيوت الله -عزَّ وجل-، وفيها يشعرُ المُسلم بالسَّكينةِ والطمأنينة، ولطالما كانت المساجدُ مِركزاً دينيَّاً واقتصاديَّاً وسياسيَّاً، إذ يجتمعُ فيها المسلمون لحفظ كتابِ الله وتدارس آياته، وتُعقدُ فيها الاجتماعات ويجتمعُ حولها الباعةُ والتُّجَّار لتسويق بضاعتهم.
ومن المسلمينَ من يَصِلُ ارتباطهُ بالمسجدِ درجةَ التُّعلقِ فيه، إذ لا يبرحُ أن يُغادره حتى يعودَ إليه من شوقه وحبِّه له، وقد امتدح الله -عزَّ وجل- أهل المساجد في سورة النّور ، فقال -تعالى-: (فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّـهُ أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّـهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ).
رجلان تحابا في الله
الفئة الخامسة من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة النَّاس المُتحابّة في الله ، والحبُّ في الله يكونُ سبباً في الاستظلالِ بظلِّه يوم القيامة، إذا كان حباً غير مشروطٍ بنيلِ أحدهما مصلحةً من الآخر، ووقتما حصلَ أحدهما على مُبتغاه من الآخر تركه، إذ يُحبَّانِ بعضهما لارتباطهما بالله -عزَّ وجل- وطاعتهما له، فإذا اجتمعا كانا على طاعة، وإذا تفرَّقا كانا على طاعة، فيؤلِّفُ الله -تعالى- بينَ قلبيهما ويورثهما حبَّ طاعتهِ وطَلبِ ما عنده.
رجل يخاف الله من فتنة النساء
الفئة السَّادسة من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة الرِّجال المتورّعينَ عن الزِّنا ، وقد وضعَ الحديثُ صورةً في غاية الأهميَّة؛ لأنَّ المرأةَ ذاتَ النَّسبِ والمالِ والجمالِ مطلوبةٌ، ولنكاحِ مثلها يسعى جميعُ الرِّجال غالباً، ولكنَّ المسلمَ يأبى أن يزني بمثلها، إذ تفوزُ خشيةُ الله -عزَّ وجل- في قلبه على حبِّ العلاقات المحرّمة؛ فاستحقَّ بصبرهِ هذا ومجاهدتهِ لنفسه أن يكونَ ممَّن يظلُّهم الله -عزَّ وجل- في ظلِّه يومَ القيامة.
وقد وردَ في القرآنِ الكريمِ بيانٌ لعاقبةِ من يخاف الله -عزَّ وجل-، إذ قال -تعالى-: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى* فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى) وجاءَ في قصَّة نبيِّ الله يوسف -عليه السَّلام- إذ راودته امرأةُ العزيز عن نفسه، قال -تعالى-: (وَراوَدَتهُ الَّتي هُوَ في بَيتِها عَن نَفسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبوابَ وَقالَت هَيتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّـهِ إِنَّهُ رَبّي أَحسَنَ مَثوايَ إِنَّهُ لا يُفلِحُ الظّالِمونَ* وَلَقَد هَمَّت بِهِ وَهَمَّ بِها لَولا أَن رَأى بُرهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصرِفَ عَنهُ السّوءَ وَالفَحشاءَ إِنَّهُ مِن عِبادِنَا المُخلَصينَ).
رجل ينفق في سبيل الله
الفئة السَّابعة من الفئاتِ المعنيَّة في الحديث هي فئة المنفقينَ في سبيلِ الله -عزَّ وجل-، ولفظ رجل الواردُ في الحديثِ لا يعني خصوصَ الرِّجال بل يُقصَدُ فيه الرِّجال والنِّساء، وذكرُ أهميَّة إخفاء الصَّدقة جاءَ تأكيداً للإخلاصِ فيها وترك الرّياءِ وطلب السُمعةِ والظهورِ بمظهرٍ حسنٍ أمام النَّاس، فالرِّياءُ من أخطرِ الأمراض التي قد تصيبُ قلبَ المسلم، إذ يحبُّ الإنسانُ أن يتلقَّى المديحَ على عمله الحَسن، ومجاهدته لنفسه تجعله من أهل هذا الحديثِ، وهي علامةٌ على قوَّةِ الايمان والإخلاصِ لله -عزَّ وجل-.
معنى يظلّهم الله في ظله
إنَّ من أهوالِ يومِ القيامة أنَّ الشَّمس تندو من النّاس دنوَّاً شديداً، فلا يجدون شيئاً يستظلّون به منها إلَّا ظلُّ الرَّحمن، وقد فَسَّر العلماءُ الظِّلَ بطرقٍ مختلفةٍ، نذكر منها ما يأتي:
- المعنى الأوَّل: إنَّ الله -عزَّ وجل- يَخلُقُ لمن يشاءُ شيئا يستظلّ به.
- المعنى الثَّاني: إنَّ حر الشَّمسِ لن يؤثّرَ في أصحابِ الحديثِ.
- المعنى الثَّالث: إنَّ الظِّلَ هو ظِلُ عرش الرَّحمن، وإضافته لله -عزَّ وجل- إضافةً معنويةً، وذلكَ أنَّ الظلِ من صفاتِ الأجسام والله -عزَّ وجل- مُنزَّهٌ عن هذا.
- المعنى الرَّابع: إنَّ الظِّلَ هو ظلُ الجنَّة.