سبب تسمية العصور المظلمة بهذا الاسم
أسباب تسمية العصور المظلمة بهذا الاسم
سميت العصور المظلمة بهذا الاسم نتيجة مراحل عدة مرّ بها تاريخ أوروبا في العصور الوسطى ، وهي المدة الزمنية التي تمتدّ ما بين نهايات القرن الخامس الميلادي "476م" وحتى القرن الخامس عشر الميلادي، وهي المدة ما بين سقوط الإمبراطورية الرومانية وبداية النهضة الأوروبية، وقد أطلق على هذه العصور هذا الاسم نظرًا للانحطاط الفكري والأخلاقي والسياسي وكل مناحي الحياة في أوروبا، وذلك قياسًا بالعصور المشرقة السابقة والتالية لها، وفيما يأتي تفصيل ذلك.
بتراركا وتسمية العصور المظلمة
تباينت معلومات المؤرخين حول العصور المظلمة وسبب تسميتها بهذا الاسم، حيث ظهرت تسمية العصور المظلمة أول مرةعلى يد الشاعر والمؤرخ الإيطالي فرانشيسكو بتراركا في ثلاثينيّات القرن الثالث عشر الميلادي، وقد كان يقصد الظلام الذي لحق بالأدب اللاتيني المتأخّر، ولكن من جاء بعده وسّع المصطلح ليشمل انعدام الإنجازات الحضارية وغيرها، ثمّ جاء بعده مَن وسّع المصطلح وجعله للدلالة على حالة التخلف والضياع التي كان يعانيها المجتمع الغربي في تلك الحقبة الطويلة الممتدة على نحو عشرة قرون، وأصل التسمية مأخوذ من الثقافة النصرانية التي تقيس الأمور بين اللونين الأبيض والأسود، فالأبيض يُقابل النور والانفتاح وكل ما هو حَسَن من أمور الحياة، بينما يُقابل الظلام واللون الأسود كل ما هو شرير وينطلق من الشر في الدنيا.
كان بتراركا علمانيًّا بالمعنى المعروف اليوم، فمع أنّ الأوروبيين كانوا ينظرون للعصور الخالية من معالم النصرانية على أنّها عصور مظلمة لا دين فيها، إلّا أنّ بتراركا كان يرى في النهضة الرومانية واليونانية في العصور القديمة عصرًا مشرقًا مضيئًا أعقبه عصرٌ مظلم، يرى بتراركا أنّه انتهى -أي العصر المظلم- مع ظهور بوادر عودة للحضارة الرومانية على يد الإنسانيين الذين كان بتراركا واحدًا منهم، ولكنّ تلك العصور التي كان يأمل بتراركا أنّها ستقوم من جديد لم تقُم، بل وصار المؤرخون اللاحقون ينظرون إلى عصر بتراركا نفسه على أنّه عصر انحطاط وظلام لأنّه عصرٌ خالٍ تمامًا من كل تلك الإنجازات التي يرى بتراركا أنّه في حال انعدامها فإنّ هذا العصر يكون عصرًا مظلمًا.
مع ظهور بدايات القرن الخامس عشر نحو الثلاثينيات في هذا القرن على وجه الدقة، ظهر مجموعة من الإنسانيين من أمثال ليوناردو بروني أنّهم على أعتاب إعادة إحياء الإمبراطورية الرومانية من جديد، فقسّموا العصور بين قديمة كانت فيها الحضارة الرومانية هي الحضارة المسيطرة على العالم الأوروبي، وبين عصور حديثة يأملون أن تنهض فيها الحضارة الرومانية مرة أخرى، وكان ما بين هذه العصور هنالك عصور متخلفة ساد فيها التوحش والظلام سمّوها العصور المظلمة، وجدير بالذكر أيضًا هنا أنّ بعض المؤرخين أطلق على هذه العصور اسم العصور الوسطى، وكان أوّل مَن أطلق اسم العصور الوسطى هو المؤرخ الإنساني فلافيو بيوندو نحو عام 1439م.
يمكن القول من وجهة نظر مُحايدة إنّ الذين هاجموا العصور الوسطى ووسموها بالتخلف والظلام والانحطاط كانوا ممّا يُعرف بالعلمانيين أو المتنورين أو نحوهم ممّن كانوا يرَون الدين ضد العقل، وكانوا ينظرون للعصور التي ساد فيها الإيمان النصراني في أوروبا على أنّها عصور ظلام لا مجال فيها للإبداع أو التنوير، وكذلك كان ممّن نظر إلى العصور الوسطى على أنّها عصور ظلامية النصارى البروتستانت الذي نظروا لعصور حكم الكاثوليكية على أنّها عصور مظلمة تفشّى فيها الجهل، فرأى البروتستانت أنّ المسيحية يجب أن تكون على طريقتهم تحت شعار: "نصرانيّة أنقى" حاولوا من خلال ذلك استعادة الروح النصرانية القديمة التي تقوم على الحب والتسامح.
نظرًا لهذه الهجمات العنيفة التي طالت العصور الوسطى وسلطة الكنيسة الكاثوليكية آنذاك، فإنّ النصارى الكاثوليك المؤمنين قد عملوا على تلميع صورة العصور الوسطى والدفاع عنها ونفي المزاعم التي تدّعي أنّها عصور ظلام، وقد أظهر المؤمنون النصارى كثيرًا من الأدلّة والإثباتات التي تؤكد أنّ العصور الوسطى كانت عصور إنجازات حقيقية في مختلف الأصعدة، وكذلك أكّدوا أنّ تسمية العصور الوسطى بهذا الاسم -أي العصور المظلمة- فيها ازدراء للمجتمع والعادات والتقاليد والكنيسة والمؤمنين.
جدل المؤرخين حول صحة التسمية
إنّ تسمية العصور الوسطى بعصور الظلام أو العصور المظلمة أو عصور الانحطاط ونحو ذلك موضع جدل وخلاف بين المؤرخين الغرب، بين من يدعم هذه التسمية وبين من يقف ضدّها ويراها وصمة عار تلاحق مدّة زمنيّة كانت النصرانيّة فيها في أوج عظمتها وازدهارها، فيدلّل بعض الباحثين على مسألة أنّ العصور الوسطى ليست عصورًا مظلمة بجملة من الأدلّة والبراهين، ومنها:
التسمية فيها تحيّز
يرى المدافعون عن العصور الوسطى أنّها لم تكن عصورًا مظلمة وإنّما جاءت هذه التسمية من علماء ومؤرخين متحيّزين لروما القديمة وحضارتها، ويرونَ أنّ الحضارة الرومانية واليونانية كانت ذروة الإنجاز البشري، وبالتالي فقد رفضوا ما أعقبها ووصفوها أنّها عصور ظلامية خالية من الإنجازات العلمية أو حتى الفنية، ولم يظهر في هذه العصور قادة عظماء كالذين كانوا في العصور القديمة.
اتساع سلطة الكنيسة
في هذه العصور اتسعت رقعة الكنيسة لتكون هي المهيمنة على الحياة في أوروبا وتكون سلطتها فوق سلطة الملوك والحكّام، ففي هذه الحالة لا يمكن للملك أو الحاكم أن يستبدّ بالحكم على نحو ديكتاتوري كما هو الحال في الإمبراطورية الرومانية التي كان الحكم المطلق فيها للإمبراطور من دون أن يكون للشعب أو للسلطات الدينية دور كبير ومهم، ويستثنى من حكّام العصور الوسطى الملك شارلمان الذي كان الحكم المطلق بيده.
نهضة العصور الكارولنجية
في عصور السلالة الكارولنجية التي حكمت أوروبا بما فيها الحاكم القوي شارلمان كان هنالك نهضة علمية وعمرانية ولا سيّما مع بداية حكم شارلمان، فقد مدّ شارلمان يده تجاه الحروب والتوسعات العسكرية ومد يده الأخرى للتطور العمراني والفنّي والتعليمي؛ فقد شهد عصره نهضة علمية ومحاربة للجهل والتخلف والأمية، وقد أدخل نظامًا للقراءة والكتابة يشمل علامات الترقيم والمسافات بين الكلمات، ونظامًا للكتابة اليدوية ونحو ذلك ممّا لم يكن معروفًا قبل عصره.