خطبة عن حسن الخلق
مقدمة الخطبة
الحمدُ لله، ثم الحمد لله، الحمد لله فاطرِ السبع الطباق، مقسِّمِ الآدابِ والأرزاق، الهادي لأحسن الأخلاق، مالكِ يوم التلاق، نحمَده على آلاءٍ تملأ الآفاق، ونِعم تطوق القلوب والأعناق، الحمد لله الذي بعث نبيه مُحمد ليُتمم لنا مكارم الأخلاق، ويهدينا لأحسنها وأفضلها، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً ندَّخرها للحظة الفراق، والتفافِ الساق بالساق، وإلى الله المساق، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، سيدُ ولدِ آدم على الإطلاق، خيرُ من ركب البراق، وتَمَّم مكارم الأخلاق.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، وأُحذركم ونفسي من مُخالفته وعصيان أوامره، فتقوى الله خيرُ زاد ليوم المعاد، قال -تعالى-: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ الغَرُورُ).
الخطبة الأولى
أيُها المُسلمون، تُعدّ مكارم الأخلاق من الأمور التي دعا إليها جميعُ الأنبياء والمُرسلين، وجاء نبينا مُحمد -عليه الصلاةُ والسلام- ليُتممها، فجاء الإسلام داعياً أتباعه إلى كُل خُلقٍ كريم، وينهاهم عن كُل خُلقٍ قبيح، فقد بُعث نبيُنا بالحنيفية السمحة، يأمر بالمعروف، ويُحل الطيبات، وقد وصفه الله -تعالى- ومدحه بقوله: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، وقد شهد له بهذه الأخلاق، القريب والبعيد، الصديق والعدو، ولما جاء ثمامة بن أٌثال سيد بني حنيفة إليه، وكان وقتها على الشرك، ورأى أخلاقه وطريقة تعامله، قال له: (يا مُحَمَّدُ، واللَّهِ ما كانَ علَى الأرْضِ وجْهٌ أبْغَضَ إلَيَّ مِن وجْهِكَ، فقَدْ أصْبَحَ وجْهُكَ أحَبَّ الوُجُوهِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن دِينٍ أبْغَضَ إلَيَّ مِن دِينِكَ، فأصْبَحَ دِينُكَ أحَبَّ الدِّينِ إلَيَّ، واللَّهِ ما كانَ مِن بَلَدٍ أبْغَضُ إلَيَّ مِن بَلَدِكَ، فأصْبَحَ بَلَدُكَ أحَبَّ البِلَادِ إلَيَّ).
عباد الله، بالأخلاق نُقلب العداوة إلى محبة، والانتقام إلى عفو، وأولى الناس بهذه المُعاملة هُم المُسلمون، فلنحرص جميعاً على التحلي بمكارم نبينا -عليه الصلاةُ والسلام- في أخلاقنا ومُعاملاتنا، فنحن في هذا الزمان نعيش في أزمة أخلاق والتي يعيشُها وللأسف كثيرٌ ممن ينتسبون إلى هذا الدين، ومما يحثُنا على التحلي بمكارم الأخلاق، ما ورد في عظيم فضله عن النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (أكْمَلُ المؤمنين إيمانًا أَحْسَنُهم خلقًا)، فصاحب الأخلاق من أكمل المؤمنين إيماناً، وجاء في بعض الأحاديث أنّ خير المؤمنين وأفضلهم أحسنهم خُلقاً، ولما سُئل النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- عن أكثر ما يُدخل الجنة، فأجاب: أنه تقوى الله وحُسن الخُلق، كما أنّه بيّن أنّ الإنسان بأخلاقه يبلغ درجة الصائم القائم، بل جاء في عظيم فضلها قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (ما مِن شيءٍ أثقلٌ في الميزانِ مِن حُسْنِ الخُلُقِ).
بل إنّ من أعظم فضائل الأخلاق؛ أنّ صاحب الخلق أحب الناس إلى النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، وأقرب الناس منزلةً منه يوم القيامة، وجاء في بعض الأحاديث أنّ المُفلس يوم القيامة هو من يأتي وليس معه رصيدٌ من الأخلاق؛ لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (إنَّ المُفْلِسَ مِن أُمَّتي يَأْتي يَومَ القِيامَةِ بصَلاةٍ، وصِيامٍ، وزَكاةٍ، ويَأْتي قدْ شَتَمَ هذا، وقَذَفَ هذا، وأَكَلَ مالَ هذا، وسَفَكَ دَمَ هذا، وضَرَبَ هذا، فيُعْطَى هذا مِن حَسَناتِهِ، وهذا مِن حَسَناتِهِ، فإنْ فَنِيَتْ حَسَناتُهُ قَبْلَ أنْ يُقْضَى ما عليه أُخِذَ مِن خَطاياهُمْ فَطُرِحَتْ عليه، ثُمَّ طُرِحَ في النَّارِ).
معاشر المسلمين، إنّ من مكارم الأخلاق؛ إفشاء السلام، والسُهولة في التعامل، والبسط مع الآخرين، فالأخلاق الكريمة؛ هي شريعة جميع الأنبياء والمُرسلين، وجاؤوا لعلاج ما فسد من فطرة الناس وأخلاقهم، فبالأخلاق ترقى الأُمم، وتتفوق على غيرها من الحضارات، ففساد الأخلاق طريقٌ لانتشار الخوف في المُجتمع، وضياع الأموال، وهتك الأعراض، وفي مكارم الأخلاق؛ انتشارٌ للأمن والخير، وحُصول الرخاء في المُجتمعات.
ومن مكارم الأخلاق التي حثنا الإسلام على التحلي بها؛ وعي المُسلم بحقوق إخوانه المُسلمين، وهي الواردة في قول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (حَقُّ المُسْلِمِ علَى المُسْلِمِ خَمْسٌ: رَدُّ السَّلَامِ، وعِيَادَةُ المَرِيضِ، واتِّبَاعُ الجَنَائِزِ، وإجَابَةُ الدَّعْوَةِ، وتَشْمِيتُ العَاطِسِ)، بالإضافة إلى كف الإذى عنهم، وإخراج ما قُلوبنا من حسدٍ وغلٍ عليهم، وحُب الخير لهم، كما أننا نسعى إلى التعاون على البر والتقوى، وأولى الناس بهذه الأخلاق والمُعاملة الحسنة من الإنسان؛ هُم أهل بيته، فقد أخبر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أن خيارنا من كان خيراً مع أهله، كما نحرص على أخلاقنا مع أبنائنا وصغارنا؛ فقد كان الحسن والحُسين -رضي الله عنهُما- يركبان على ظهر النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- وهو يُصلي فيُطيل السجود، فنحرص على رعاية أطفالنا ومُلاطفتهم، وحُسن رعايتهم، ومُمازحتهم.
والأخلاق في ديننا أكثر من أن تُعدُ أو تُحصى، ولكن بعض العُلماء أرجعها إلى أربعة أُصول؛ وهي: الصبر، والعفة، والشجاعة، والعدل، فبالصبر؛ يكون احتمال الآخرين، وكظم الغيظ، وإماطة الأذى، والرفق، وبالعفة؛ ابتعادٌ عن الرذائل والقبائح، سواءٌ أكان في القول أو الفعل، وبالشجاعة؛ تكون عزة النفس، والتخلّق بمعالي الأخلاق، وإنّ العدل يحمل صاحبه على اعتدال أخلاقه وتوسطه بين طرفي الإفراط والتفريط، فلا يسرف ولا يقتر، ولا يجبن ولا يتهور، ولا يغضب ولا يهان، عباد الله، فلنُراجع أنفُسنا ومدى التزامنا بأخلاق الإسلام؛ فهي طريقنا إلى الجنة وإلى السعادة في الدُنيا والآخرة.
أيها الإخوة الفضلاء، إنّ الأخلاق طريقُنا إلى إشاعة المحبة والأُلفة بين أفراد المُجتمع المُسلم، من خلال تعامُلنا مع بعضنا، وتعميق روابط الأُخوة بيننا، فنُريد أن نكسب قُلوب الآخرين بأخلاقنا، وليس بتنازُلنا عن مبادئنا وأهدافنا، فالله يُحب معالي الأخلاق، ويُبغض سفسافها، وفي التعامل الحسن تطبيقٌ لتعاليم وشريعة ديننا، فقد جاء في وصايا النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-؛ أن نُخالق الناس بُخلقٍ حسن؛ لأن الأخلاق السيئة مُنفرةٌ للغير، قال -تعالى-: (وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ).
فالأخلاق من أفضل الأعمال التي دعا إليها الشرع الحنيف، بل ورغب بها، وأن أكثر ما يُبغضه الله -تعالى- صاحب الخُلق السيء، لقول النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-: (ما شيءٌ أثقلُ في ميزانِ المؤمِنِ يومَ القيامةِ مِن خُلُقٍ حسَنٍ، فإنَّ اللَّهَ -تعالى- ليُبغِضُ الفاحشَ البَذيءَ)، فحُسن الخُلق يشمل تعامل الإنسان مع ربه، ومع جميع الناس، سواءً في الأقوال والأفعال، فالله -تعالى- أمرنا بالقول والفعل الحسن مع الناس، فقد قال -تعالى-: (وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا).
عباد الله، إنّ الأخلاق الحسنة تُصلح ما بين العبد وبين الخلق، وهي طريقٌ لكمال الإيمان، وذكر بعض أهل السلف: أن حُسن الخُلق قسمان، الأول: مع الله -تعالى-؛ وثانيها؛ مع الناس؛ ويكون من خلال بذل المعروف لهم، وكف الأذى عنهم، وقُدوتثنا في ذلك نبيُنا مُحمد -عليه الصلاةُ والسلام- الذي كان أعظم الناس خُلقاً، فقد كان حسن الخُلق مع الناس على اختلاف أصنافهم، فقد كان حسن الخُلق؛ مع نسائه، وخادمه، وجاء عن عبد الله بن المُبارك: أن حسن الخُلق يكون بطلاقة الوجه، وبذل المعروف، وكف الأذى، واحتمال أذاهم.
الخطبة الثانية
عباد الله، اعلموا أن دينكم كُله خلق، فمن زاد عليكم في الخُلق فقد زاد عليكم في الدين، فالنبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- حدد لنا الغاية الأولى من بعثته ودعوته؛ وهي ليُتمم مكارم الأخلاق، ومن التزم بها فاز بخيري الدُنيا والآخرة، ونال الدرجات العالية يوم القيامة، ولما سُئل النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- عن البر، فقال: هو حُسن الخُلق، واعلموا أنّ حُسن الخُلق يعتمد على الفعل والترك، بفعل الخير للناس، وترك ما يتأذون به أو يسوؤهم.
الدعاء
- اللهم جمّلنا بأحسن الأخلاق، وأعنّا على الإحسان للآخرين، وأفرغ علينا صبراً في تحمّل الأذى فلا نُؤذي أحداً.
- اللهم اهدنا لأحسن الأقوال والأخلاق فإنه لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها فإنه لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، واغفر لنا ذُنوبنا، واستر عُيوبنا، وآمن روعاتنا، ونسألُك العُلا من الجنة.
- اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم ارفع عنا الغلاء، والوباء، والربا، والزنا، والزلازل، والمحن، وسائر الفتن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وتتوب علينا، وإذا أردت بعبادك فتنة أن تقبضنا إليك غير مفتونين.
- سُبحانك رب العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على نبينا مُحمد.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.