خطبة عن تعامل النبي مع زوجاته
مقدمة الخطبة
الحمد لله الذي أرسل رسوله رحمةً للعالمين، وقدوةً للعامِلين، وأسوةً للنَّاس أجمعين، أرسله للنَّاس بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، الحمد لله الذي جعل نبيَّه -عليه الصلاةُ والسلام- خير النَّاس لأهله، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليماً كثيراً.
الوصية بتقوى الله
عباد الله، أوصيكم ونفسي المُقصرة بتقوى الله ولُزوم طاعته، فخير ما يوصي به المُسلم أخاه أن يتَّقي ربَّه ومولاه، وأُحذركم ونفسي المُقصرة من مُخالفته وعصيان أوامره، لقوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا* يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا)، سوف نتحدث معكم إن شاء الله في هذا اليوم المُبارك عن تعامل وهدي النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- مع زوجاته وأهل بيته.
الخطبة الأولى
عباد الله، اعلموا أنَّ سيرة نبيِّكم -عليه الصلاةُ والسلام- زاخرةٌ بالمواقف الحسنة والطيِّبة مع أهل بيته، فقد كان خيرَ زوجٍ لأهله، كيف لا يكون كذلك وهو القائل: (خَيْرُكم خَيْرُكم لِأَهْلِه، وأَنا خَيْرُكم لِأَهْلي)، كان نبيّنا -عليه الصلاةُ والسلام- الزَّوج المُحبَّ، والنَّاصح، والجليس المؤنس لزوجاته، وكان يلاطفهنَّ ويضحك معهنَّ في السَّراء، ويواسيهِنَّ في الضَّراء.
وكان يستمعُ لشكواهنَّ دون تذمُّرٍ، ولا يؤذيهنَّ بأيِّ نوعٍ من أنواع الأذى، سواءً بيده أو بلسانه، فلا يجرح مشاعرُهُنَّ بكلامه، ولا يتصيَّد أخطاهنَّ، ولا يتتبَّع عثراتهنَّ، فلم يرد عنه أنَّه ضرب امرأةً بيده قط، فقد كان يتغاضى عن الأخطاء والزَّلات، وكان كثير العِرفان والشُكر لهُنَّ، وينظر إلى أفضل ما فيهنَّ من أخلاق.
ووجّهنا حبيبنا المصطفى إلى ذلك بقوله: (لَا يَفْرَكْ مُؤْمِنٌ مُؤْمِنَةً، إنْ كَرِهَ منها خُلُقًا رَضِيَ منها آخَرَ، أَوْ قالَ: غَيْرَهُ)، وذكر لنا أصحابُ السُّنن وأهل السِّيرة جانباً كبيراً من حياته مع زوجاته، وطريقة تعامُله معهُنّ، ولما سُئلت زوجته عائشة -رضي الله عنها- عن أخلاقه في بيته ومع زوجاته، فأجابت بقولها: "كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أَلْيَنَ الناس، وأكرم الناس، كان رجلاً من رجالكم، إلَّا انه كان ضحَّاكًا بسَّامًا، كان يكون في مهنة أهله، يخصف نعله، ويرقع ثوبه، ويخدم نفسه، فإذا حضرت الصلاة خرج إلى الصلاة".
فهو -صلى الله عليه وسلم- ألين الناس وأكرمهم وخاصةً مع زوجاته رغم كثرة مشاغله؛ فهو قائد الأُمَّة ونبيُّها، وكان يقوم بخدمتهم ومهنتهم؛ الأمر الذي يُوطِّد العلاقة بين الأزواج، ويزرع المودَّة والألُفة، ويُديم الحياة الزوجيّة بينهما، وممَّا يؤكد لُطفه في تعامله معهنّ؛ أنه ذات يومٍ كان جالساً مع زوجته عائشة -رضي الله عنها-، ودخل عليهم خادمُ زوجته الأُخرى زينب بنتُ جحش -رضي الله عنها- ومعه طعام للنبيّ -عليه الصلاةُ والسلام-، فتحرّكت الغيرة في قلب أم المؤمنين عائشة، وأخذت الطعام وكسرت صفحة الطعام وتناثر على الأرض، فقام النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- بجمع الطَّعام، وهو يقول: غارت أُمّكم، فلم يوبّخها، بل راعى نفسيَّتها.
ومن المشاهد في بيت النُبوة أيضاً أنَّ عائشة -رضي الله عنها- علا صوتُها وراجعت النبيَّ -عليه الصلاةُ والسلام- في بعض أُموره، وفي هذه الَّلحظة مرَّ أبوها أبو بكر الصديق -رضي الله عنه-، فاستأذن في الدُخول وكانت تبدو عليه علامات الغضب، وعاتب ابنته وقال لها: يا ابنة أُم رومان، لا أراك ترفعين صوتك على رسول الله.
فقامت عائشة -رضي الله عنها- بالاحتماء خلف النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام-، ودافع عنها أمام أبوها، ثُمَّ مازحها بعد خُروجه، فاستحيت من نفسها، ويروى أنَّ أزواج النبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- كُنَّ يُراجعنه، فما كان يُقابل ذلك إلَّا بحلمه وعفوه، لِما جاء في الحديث أن زوجة عمر بن الخطاب قالت له: (فَوَاللَّهِ إنَّ أزْوَاجَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليُرَاجِعْنَهُ، وإنَّ إحْدَاهُنَّ لَتَهْجُرُهُ اليومَ حتَّى اللَّيْلِ، فأفْزَعَنِي، فَقُلتُ: خَابَتْ مَن فَعَلَ منهنَّ بعَظِيمٍ، ثُمَّ جَمَعْتُ عَلَيَّ ثِيَابِي، فَدَخَلْتُ علَى حَفْصَةَ، فَقُلتُ: أيْ حَفْصَةُ أتُغَاضِبُ إحْدَاكُنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ اليومَ حتَّى اللَّيْلِ؟ فَقالَتْ: نَعَمْ).
معشر المسلمين، كان النبيّ -عليه الصلاةّ والسلام- يواسي زوجاته، ويجبرُ بخاطرهنَّ، فقد روي عنه أنَّه دخل ذات يومٍ على زوجته صفية بنتُ حُيي -رضي الله عنها- وهي تبكي، فسألها عن سبب بُكائها، فأخبرته أن حفصة بنتُ عُمر بن الخطاب -رضي الله عنها- قامت بتعييرها أنَّها ابنة يهوديٍّ، فجبر النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- بخاطرها، وقال لها قأن تقول: أنا زوجي مُحمَّد، وأبي هارون، وعمي موسى.
ونظر إلى زوجته الأُخرى وقال لها أن تتّقِ الله، فكان النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- يحل مشاكله بحكمة، كما كان -عليه الصلاةُ والسلام- كثير المُشاورة لهُنَّ، فكان يُشاورهُنَّ ويشكي لهُنَّ هُمومه وما يحصل معه، فقد أخذ بمشورة زوجته أُمُّ سلمة -رضي الله عنها- في صُلح الحُديبية، وكان لرأيها أثرٌ عظيمٌ في الصحابة.
أيّها الأفاضل، كانت سيرة النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- مع أهله وأُسرته عظيمةٌ من جميع جوانبها، فهو خيرُ النَّاس لأهله، وهو قدوةٌ للأزواج في كيفيَّة تعامُله مع نسائه، وهو القائل: (اسْتَوْصُوا بالنِّساءِ؛ فإنَّ المَرْأَةَ خُلِقَتْ مِن ضِلَعٍ، وإنَّ أعْوَجَ شَيءٍ في الضِّلَعِ أعْلاهُ، فإنْ ذَهَبْتَ تُقِيمُهُ كَسَرْتَهُ، وإنْ تَرَكْتَهُ لَمْ يَزَلْ أعْوَجَ، فاسْتَوْصُوا بالنِّساءِ)، فاعلموا -عباد الله- أنَّ بيت النبيَّ -عليه الصلاة والسلام- لا يخلو من النِّزاعات التي تحصل بين الأزواج، فقد كانت نساؤه تشكو إليه قلَّة العيش وضيقه، وكُنّ يُراجعنه في العديد من الأمور، فكان النبيُّ -عليه الصلاةُ والسلام- يغضُ الطرف عن هذه الأخطاء والعُيوب، وينظرُ إلى محاسنهنَّ، ويُركزُ على إيجابياتهنَّ، فعلى الأزواج احتواء الخلافات وعدم تعظيمها والاقتداء برسولنا الكريم.
وكان من عظيم محبَّة النبيِّ -عليه الصلاةُ والسلام- لأزواجه؛ أنَّه كان يُشاركُهُنَّ في مأكلهنَّ ومشربهنَّ، لما ثبت عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: (كُنتُ أشرَبُ، وأَنا حائضٌ، وأُناولُهُ النَّبيَّ فيَضعُ فاهُ على موضِعِ فيَّ، فَيشرَبُ وأتعرَّقُ العِرقَ وأَنا حائضٌ، وأُناولُهُ النَّبيَّ، فيضَعُ فاهُ على مَوضِعِ فيَّ)، وكان يخرُج معهنَّ للتنزُّه؛ الأمر الذي يزيد المحبَّةُ بيهم، فقد روت عائشة -رضي الله عنها- أنَّ النبيَّ -عليه الصلاةُ والسلام- كان يخرج معها في الَّليل للتحدُث، ويُقابل جفوتهنَّ بكل بشاشةٍ، ويُقابل غيرتهنَّ بكلِّ حلمٍ وأناةٍ، ويُعطيهنَّ حقهنَّ من التَّقدير والاحترام، فكان نِعم الزَّوج لهُنَّ، وبلغ من أدبه معهنَّ أنَه يتغاضى عن زلّاتهنَّ وأخطائهنَّ.
وكان نبيّ الله يوجّههُنَّ نحو الصَّواب، ويُعالج غيرتهنَّ، كالموقف الذي كسرت به عائشة -رضي الله عنها- صفحة الطَّعام، فطلب منها أن تردَّ مثلها كما كسرته، وذات يومٍ قامت حفصة وعائشة بمُطالبته بأن يشتري لهُن ذهباً وفضةً مع علمهنَّ أنَّه لا يملك ثمن ذلك؛ فسمع أبو بكر -رضي الله عنه- صوتهنَّ؛ فقال للنبيّ -عليه الصلاةُ والسلام- أن يخرج إلى الصلاة، وأن يحثُ هو في وجوههنَّ التراب، فقابل ذلك بأعظم الأخلاق، فهو الذي وصفه ربُّه بأنَّه على خُلقٍ عظيم، أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ، فاستغفروه وتوبوا إليه إنَّه هو الغفور الرَّحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله، حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه كما يحبُّ ربُّنا ويرضى، وأشهد أنَّ لا إله إلَّا الله وحده لا شريك له، له العاقبة في الآخرة والأولى، وأشهد أنَّ محمدًا عبده ورسوله، نبيَّه المرتضى ورسوله المجتبى، صلى الله عليه وسلم وعلى آله وصحبه ومَنِ اهتدى، أمَّا بعد، عباد الله، اعلموا أنَّ نبيكم -عليه الصلاةُ والسلام- كان أحسن النَّاس خُلقاً مع أهله، فكان يقوم بخدمتهنَّ، ومُساعدتهنَّ في أعمال البيت، ويتحملُ أخطائهنَّ، ويتجاوز عن زلاتهنَّ، ويصبر على ذلك، ويقوم بمُلاطفتهنَّ.
فهو أخبر عن نفسه أنَّه خير النَّاس لأهله، وأنَّ خير النَّاس من كان خيراً لأهله ومع أهله، فكان النموذج الأكمل في كيفيَّة تعامل الإنسان مع زوجاته، فكان بشراً من البشر، ويحدثُ في بيته ما يحدثُ في أي بيتٍ من بيوت الناس، وقد بينت لنا زوجاته طريقة تعامُله معهُنَّ، ونقل لنا أصحاب السِّير والسُّنن ذلك في كُتبهم، فصلوا على نبيكم مُحمد وتأسّوا بأخلاقه.
الدعاء
- اللهمَّ إنَّا نسألك من الخير كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم، ونعوذ بك من الشر كله عاجله وآجله ما علمنا منه وما لم نعلم.
- اللهمَّ آتنا في الدنيا حسنةً وفي الآخرة حسنةً وقنا عذاب النَّار برحمتك يا أرحم الراحمين.
- اللهم إن نسألك صلاحاً لأحوال الجميع، وأن تُديم المحبة بين الأزواج.
- اللهم أكرمنا وارزقنا من أزواجنا وذُرياتنا قُرة أعين، واجعلنا للمُتقين إماماً.
- سُبحان ربك رب العزة عمّا يصفون، وسلامٌ على المُرسلين، والحمدُ لله رب العالمين، وصلوا على نبيكم مُحمّد.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.