خطبة عن الصدق
خطبة عن الصدق
مقدمة الخطبة
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونستهديه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهديه الله فلا مضل له، ومن يضلل فلن تجد له ولياً مرشداً، وأصلي وأسلم وأبارك على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه وأتباعه إلى يوم الدين.
الوصية بتقوى الله
وأوصيكم بتقوى الله العظيم ولزوم طاعته، وأحذركم ونفسي من مخالفة أمره ونهيه، واتعظوا من قوله -عز من قائل-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
الخطبة الأولى
أيها الإخوة الأكارم، حديثنا لكم هذا اليوم عن خلق عظيم جليل وهو الصدق؛ وقد دلت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة على فضائل الصدق، ولعل أكبر فضيلة للصدق أن الله -سبحانه وتعالى- وصف نفسه بهذه الصفة الكريمة، قال -عز وجل-: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ حَدِيثًا)،وقال في موضع آخر: (وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّـهِ قِيلًا)،وقال أيضاً: (وَإِنّا لَصادِقونَ).
ومن فضل الصدق أنه صفة أنبياء الله -عليهم الصلاة والسلام-، فقال عن سيدنا إبراهيم -عليه الصلاة والسلام-: (وَاذكُر فِي الكِتابِ إِبراهيمَ إِنَّهُ كانَ صِدّيقًا نَبِيًّا)،وعن إسماعيل -عليه الصلاة والسلام-: (وَاذكُر فِي الكِتابِ إِسماعيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الوَعدِ وَكانَ رَسولًا نَبِيًّا)،
وقد زكَّا صدق نبيه محمد -صلى الله عليه وسلم- في نقل الوحي عن الله -سبحانه وتعالى- في قوله: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى* إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى).
وكذلك فقد مدح الله -سبحانه وتعالى- الصادقين في كتابه العظيم وأمر عباده أن يكونوا من الصادقين حين قال: (يا أَيُّهَا الَّذينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّـهَ وَكونوا مَعَ الصّادِقينَ)،وبين في موضع آخر أن الصدق ينفع صاحبه وسبب في دخوله الجنة.
قال -عز من قائل-: (قَالَ اللَّـهُ هَـذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَّضِيَ اللَّـهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ)،وغيرها من الآيات الكريمات.
إخواني الأعزاء: وأما عن الأحاديث النبوية الشريفة التي ذكرت موضوع الصدق وبينت فضله؛ فنذكر منها ما صح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- في صحيح مسلم عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- أنه قال: (علَيْكُم بالصِّدْقِ، فإنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَصْدُقُ ويَتَحَرَّى الصِّدْقَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ صِدِّيقًا).
ثم يكمل النبي -صلى الله عليه وسلم- فيحذر ويقول: (وإيَّاكُمْ والْكَذِبَ، فإنَّ الكَذِبَ يَهْدِي إلى الفُجُورِ، وإنَّ الفُجُورَ يَهْدِي إلى النَّارِ، وما يَزالُ الرَّجُلُ يَكْذِبُ ويَتَحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكْتَبَ عِنْدَ اللهِ كَذّابًا).
وعن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- في الحديث الذي يرويه المنذري في الترغيب والترهيب وصححه الألباني، عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (أربعٌ إذا كُنَّ فيك فلا عليك ما فاتك من الدُّنيا حفظُ أمانةٍ وصدقُ حديثٍ وحسنُ خُلقٍ وعِفَّةٌ في طُعمةٍ).
الإخوة الأفاضل: للصدق أنواع أهمها الصدق مع الله -سبحانه وتعالى-، وهو أساس الإيمان، قال ابن القيم -رحمه الله تعالى- في كتاب الفوائد: "ليس شيء أنفع للعبد من صدق ربه في جميع أموره، مع صدق العزيمة، فيصدقه في عزمه وفي فعله قال -تعالى-: (فَإِذَا عَزَمَ الأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُم)،فسعادته في صدق العزيمة وصدق الفعل، ومن صدق الله في جميع أموره صنع له فوق ما يصنع لغيره".
ومن أهم أنواع الصدق: الصدق مع النفس، فلا يخدع نفسه ويمنيها ويعيش في الخيال وأحلام اليقظة، بل يتعرف على أهدافه ومقوماته، وهذا يجعل الإنسان متصالحاً مع ذاته، ساكن النفس مطمئناً، يعيش سلاماً داخلياً.
ومن أنواع الصدق التي تظهر في حياة الإنسان الصدق مع الناس، وهو خلق يحفظ حياة المجتمع، وينشر فيه الطمأنينة، ويبعث معاني الثقة بين أفراده، ويوطد علاقات الأخوة فيما بينهم.
عباد الله، هناك الكثير من القصص التي تبين أن الصدق منجاة؛ ولعل أشهر القصص التي تتحدث عن نجاة الصادق، قصة الصحابة الكرام الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وهم كعب بن مالك ومرارة بن ربيع وهلال ابن أبي أمية -رضي الله عنهم-.
ولم تكن لهم أعذار تمنعهم من الخروج إلى الغزوة، ولما عاد النبي -صلى الله عليه وسلم- من الغزوة، جاء المنافقون الذين تخلفوا عن الغزوة يتعذرون بالأعذار الكاذبة، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم- يقبل ظاهرهم.
أخبر هؤلاء الصحابة النبي -صلى الله عليه وسلم- أنهم ليس لهم عذر في عدم الخروج، فأجل النبي -صلى الله عليه وسلم- الحكم فيهم حتى يقي الله -سبحانه وتعالى- فيهم، وقد عاقبهم النبي -صلى الله عليه وسلم- عقاباً شديداً، فأمر أصحابه الكرام -رضوان الله عنهم- أن يقاطعوهم، حتى أمر أزواجهم أن يعتزلوهم، وظل هؤلاء الكرام على هذا الحال خمسين ليلة.
وقد وصف الله -سبحانه وتعالى- حالهم الذي وصلوا إليه أثناء المقاطعة بقوله في سورة التوبة: (حَتّى إِذا ضاقَت عَلَيهِمُ الأَرضُ بِما رَحُبَت وَضاقَت عَلَيهِم أَنفُسُهُم وَظَنّوا أَن لا مَلجَأَ مِنَ اللَّـهِ إِلّا إِلَيهِ ثُمَّ تابَ عَلَيهِم لِيَتوبوا إِنَّ اللَّـهَ هُوَ التَّوّابُ الرَّحيمُ)،وبعد تلك الأيام الصعبة تاب الله عليهم بسبب صدقهم.
ومن قصص نجاة الصادقين بصدقهم قصة عبد القادر الجيلاني عندما كان طفلاً وبعثته أمه من مكة إلى بغداد لطلب العلم، وأعطته أربعين ديناراً كنفقة له، وعاهدته على الصدق في كل أحواله.
ولما كان في بعض الطريق في القافلة إذ قطع طريقهم بعض قطاع الطرق، وأخذوا ما مع الناس من مال ومتاع، وسأله أحد اللصوص عما معه، فأجابه أن معه أربعين ديناراً، فظن أنه يسخر منه، وسأله آخر فأجابه ذات الجواب، فأخذوه إلى كبيرهم.
سأله كبيرهم لماذا صدقت وكان بإمكانك أن تحتفظ بمالك، ولن نشك بأمرك، فقال له بأنه عاهد أمه على الصدق دائماً، ولن يخون عهدها، فتأثر لذلك كبير اللصوص؛ فكيف يحافظ هذا الصغير على عهده لأمه.
ولا يحافظ هو على عهده مع الله -عز وجل-، فتاب وأمر بإعادة الأموال المسروقة إلى أصحابها، وتاب معه بقية اللصوص، فبالصدق نجا الطفل، ونجت القافلة، ونجا اللصوص من غضب الله -سبحانه وتعالى-.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً يوافي نعمه، ويدفع عنا نقمه، وأصلي وأسلم على الصادق الأمين وآله وصحبه أجمعين، وبعد: فإن الصدق من أهم أخلاق المؤمن، وضحت أهميته وفضله الآيات الكريمة، والأحاديث النبوية الشريفة، وله أنواع وثمرات في حياة الفرد والمجتمع، فأهم أنواعه: الصدق مع الله -سبحانه وتعالى-.
ومن أنواعه كذلك الصدق مع النفس، والصدق مع الناس، ومن ثمرات الصدق أنه ينجي صاحبه وإن ظن أن الكذب أسهل وأنجى، فعلينا أن نلتزم الصدق في كل أحوالنا، ونربي عليه أبناءنا.
الدعاء
- اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
- اللهم اجعلنا من عبادك الشاكري، واجعلنا من عبادك الذاكرين، واجعلنا من عبادك التوابين والمتطهرين، واحشرنا مع عبادك الصادقين.
- اللهم اجعل لنا لسان صدق في الآخرين، وتب علينا من ذنوب ألسنتنا، وحبب إلينا الصدق وقول الحق واتباع الحق، وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله الميامين، وعلى الصحابة أجمعين.
عباد الله، إنّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، وأقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنّه هو الغفور الرحيم.