حق الله على العباد
حقُّ الله على العباد
خلق الله جَميعَ المَخلوقات بأكمل وأتمّ صورة، وكان الهدفُ والغايةُ الأولى المَقصودة من جميع تلك المخلوقات هي عبادة الله - سبحانه وتعالى - وتقديسه وتنزيهه، وأنّه هو الإله المُتفرّد بالخلق، وهو الأحقّ بأن يُعبدَ من دون وجود شريكٍ له في ذلك، فلذلك كما خَلَقهم وأحسن في خلقهم كان حقّاً عَليهم أن يَشكُروه بحُسن العبادة ، والعمل بجَميع الأمور والأعمال التي يَطلبها منهم دون إبداء امتعاضٍ من كثرة تلك الأعمال أو صعوبتها إن كان فيها شيءٌ من الصعوبة، ويجب أن يَعتقد الناسُ جميعاً أنّهم مهما قدّموا لله من العمل والعِبادة والطاعة فلن يوفوهُ ما وَهبَهم من نعمه.
إنّ حقّ الله على العباد بالدرجة الأولى هو عبادته وتوحيده وتنزيهه عن كلّ نقصٍ يرد لغيره من الخلق، ومع كلِّ ذلك فإنّ الله غنيٌ عن الخلق، فليست له حاجةٌ في عبادتهم، كما أنّه لا يتضرّر بكُفرهم به، وقد ورد عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيما روى عن اللهِ تبارك وتعالى أنَّهُ قال: (يا عبادي؛ إني حرَّمتُ الظلمَ على نفسي وجعلتُه بينكم محرَّمًا فلا تظَالموا، يا عبادي كلّكم ضالٌّ إلا من هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكم، يا عبادي كلّكم جائعٌ إلا من أطعمتُه، فاستطعموني أُطعمكم، يا عبادي كلّكم عارٍ إلا من كسوتُه، فاستكسوني أكْسُكُم، يا عبادي، إنّكم تُخطؤون بالليلِ والنّهارِ، وأنا أغفرُ الذّنوبَ جميعاً، فاستغفروني أغفرُ لكم، يا عبادي إنّكم لن تبلغوا ضُرِّي فتضرّوني، ولن تبلغوا نفعي فتنفَعوني، يا عبادي لو أنَّ أوَّلكم وآخركم وإِنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أتقى قلبِ رجلِ واحدٍ منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخركم وإنْسَكم وجِنَّكم كانوا على أفجرِ قلبِ رجلٍ واحدٍ ما نقص ذلك من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أنَّ أوَّلَكم وآخرَكم وإنسَكم وجِنَّكم قاموا في صعيدٍ واحدٍ، فسألوني فأعطيتُ كلّ إنسانٍ مسألتَه، ما نقص ذلك ممّا عندي إلا كما ينقصُ المِخْيَطُ إذا أُدْخِلَ البحرَ، يا عبادي إنّما هي أعمالكم أُحصيها لكم، ثمّ أوفِّيكم إيّاها، فمن وجد خيرًا فليحمدِ اللهَ، ومن وجد غيرَ ذلك فلا يلومَنَّ إلا نفسَه).
معنى العِبادة
العِبادة في اللّغة
العبادة مصدر عَبَدَ، وعَبَدْتُ اللهَ أَعْبُدُهُ عِبَادَةً؛ بمعنى الانقِيَاد وَالخُضُوع، ومنها العَابِدُ، وَالْجَمْعُ عُبَّادٌ وَعَبَدَةٌ، وَالعَبْدُ خِلَافُ الحُرِّ، وَهُوَ عَبْدٌ بَيِّنُ العَبْدِيَّةِ وَالعُبُودَةِ وَالعُبُودِيَّةِ، وجمعها أَعْبُدٌ وَعَبِيدٌ وَعِبَادٌ، ويُقال: أَعْبَدْتُ زَيْدًا فُلَانًا؛ أي مَلَّكْتُهُ إيَّاهُ لِيَكُونَ لَهُ عَبْدًا، وَاسْتَعْبَدَهُ وَعَبَّدَهُ بِالتَّثْقِيلِ؛ أي اتَّخَذَهُ عَبْداً.
العِبادة في الاصطلاح
ذكر العلماء مجموعة من التعريفات للعبادة ، من ذلك قولهم إنّ المقصود بالعبادة: هي اسمٌ عامٌ جامع لكلّ ما يحبّه الله ويرضى به من قولٍ أو عملٍ باطنٍ أو ظاهر، ويرى ابن تيمية أنّ العبادة هي: طاعة الله المُتمثّلة بامتثال ما أمر به وأخبر به عنه الرّسل والأنبياء؛ حيث إنّ العبادة لله هي الغاية الأولى من خلق الخلق فهي صفةٌ محبوبةٌ عند الله - عزّ وجل - بها يرضى عن الخلق، قال: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ).
لإتمام غاية عبادة الله وتفهيمها للناس أرسل الله تعالى الرسل والأنبياء، فبلّغوا عن الله بمضمونها؛ حيث إنّ جميع الشرائع والرسالات التي جاء بها الأنبياء قد اتفقت حول هذه الغاية؛ ويظهر ذلك في قول الله سبحانه وتعالى: (اعْبُدُوا اللهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ)، فدلّ ذلك على أنّ الغاية التي جاب بها جميع الرسل والأنبياء من خلق الناس والخلق كافّة هي العبادة لا غيرها.
الفرق بين العبادَة والطَّاعَة
يوجد فرقٌ ظاهرٌ بين الطّاعة والعبادة؛ فالْعِبَادَة تعني غَايَة الخضوع والتذلّل للمعبود، وَلَا تكون العبادة إِلَّا لمُنعمٍ مُتفضّلٍ شديد الإنعام، ولذلك فلا تصدق العبادة ولا يستحقّها إلا الله سبحانه وتَعالى؛ فهو وحده الإله المُنعِم المُتفضِّل بالنِّعَم، وهو وحده الخالق الرزّاق، وَلَا توجد العِبَادَة إِلَّا لمن عرف معبوده وخضع له خضوعاً تاماً وانقاد لأوامره وانتهى عن نواهيه، أمّا الطَّاعَة فتعني: الفِعل النّاتج عن طلب من هو دون اللهِ في المنزلة من حيث القدر ومن حيث الإنعام، وفي هذه الحالة يُسمّى الفعل الناتج عن ذلك الطلب طاعةً، ويصحّ إيراد لفظ الطّاعة على المخلوق كما أنه يصدق ويصح إطلاقه للخالق، فيقال أطاع فلانٌ ربه، ويصح أن يُقال في معرضٍ آخر: أطاع فلانٌ سيده، أو أطاع والده، إلى غير ذلك.
العِبَادَة لا تكون إِلَّا للخالق عزّ وجل، وتكون الطاعة بأن يتَّبِع المدعوّ الدَّاعِي في تنفيذ ما طلبه منه وإن لم يقصد الانقياد له، فيحصل أن يُطيع الإنسان الشيطان ببعض الأعمال دون إرادة طاعة الشيطان في الحقيقة، لكنّه يفعل ذلك اتباعاً لهواه فيطيع الشيطان دون قصدٍ مباشرٍ لطاعته، أو إقرارٍ منه بأنه منقادٌ له، فيكون قد أطاعه في المضمون دون الانقياد، أمّا العبادة فلا تتحصل إلا بالانقياد التام كما سبق بيانه. أما ما يريده الله من عباده فهو العبادة المرافقة للطاعة التامة المطلقة، فمجرد إطاعة الله في بعض الأعمال لا تعني كمال العبودية له، بينما تصدق العبادة عليهما معاً.
أنواع العبادة
يُمكن للعبد أن يُطيع خالقه ويتقرّب إليه بمجموعةٍ من الأعمال والوسائل الموصلة إلى الله، والتي تصل إلى تأدية حق الله على العبد بالنتيجة، وتجعله يُقيم الغاية التي جاء وخُلق لأجلها، ومن تلك الأمور:
- العبادات القلبيّة: يُقصد بالعبادات القلبيّة التي يكون إنشاؤها قائماً على فعل القلب ، وتكون ناتجةً عنه غير مخلوطةٍ بسواها من الأعمال، فهي في الحقيقة لا تقوم على شيءٍ ظاهر، بل يكون مردُّها القلب كحبّ الله - سبحانه وتعالى - أو حبِّ من أمر الله بحبهم، شريطة أن يكون ذلك الحبّ قائماً على ما يرضي الله، ويصدق على العبادات القلبيّة أيضاً: الخوف من الله وحده والخشية من عقوبة وما ينتج عن تلك الخشية، ومثال ذلك الوصول إلى التقوى، ومن الأعمال القلبيّة كذلك حسنُ الظن بالله والرّجاء بأن يغفر الله له بعد التوكُّل عليه بالقيام بالأعمال الصالحة، والبعد عن المنكر من القول والفعل، قال تعالى: (أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ).
- العبادات اللسانيّة: يقوم هذا النوع من العبادات على ما هو منطوقٌ باللسان من الأعمال شريطة أن تكون النيّة فيه، والقصد منه التقرُّب إلى الله ، والأمثلة على هذا النوع من العبادات كثيرة، منها النُّطق بالشّهادتين، وشكر الله والثَّناء عليه، والتوجّه إليه بالدعاء، والذكر بأشكاله وأنواعه، وقراءة القُرآن ، ودعوة الناس إلى الإيمان بالله سبحانه وتعالى وحده، والنُّصح لعوام الناس وأئمتهم؛ والأمر بالمعروف، والنّهي عن المنكر.
- العبادات البدنيّة: يقوم هذا النوع من العبادات على الأفعال التي تحتاج إلى جهدٍ جسمي ومشقة، وحركةٍ وتنقُّلٍ من موضعٍ لآخر، وهو أوسع أبواب العِبادات وأكثرها شيوعاً، وله من الأمثلة ما لا حصر له، ومن ذلك: الصلاة، والصيام، والحج، وذبح الذبائح قربةً إلى الله - سبحانه وتعالى - كذبح النذور والعقائق والهدي، ونحو ذلك من العبادات التي تحتاج إلى حركةٍ وجهدٍ جسديّ مُلاحظ.
شروط قَبول العبادة
للعبادة شرطان رئيسان لا بُدّ من توافرهما في العمل المقصود منه التقرُّب إلى الله سواءً كان ذلك العمل قلبياً أم جسدياً أم لسانياً، وهذان الشرطان هما:
- الإخلاص في العبادة لله سبحانه وتعالى وحده وعدم الإشراك في ذلك العمل غيره من الخلق، قال تعالى: (فَاعْبُدِ الله مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ*أَلَا لِلهِ الدِّينُ الْخَالِصُ)، وقال تعالى: (وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ).
- أن تكون العبادة موافقةً لشرع الله سبحانه وتعالى؛ لقوله تعالى: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ)، ولقول المصطفى صلّى الله عليه وسلّم في الصّحيح: (مَنْ عَمِلَ عملاً ليسَ عليهِ أمرُنا فَهُوَ ردٌّ).