ثلاثة جدهن جد
ثلاثة جِدّهن جد
ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قوله: (ثَلاثٌ جِدُّهُنَّ جِدٌّ، وهَزلُهُنَّ جِدٌّ: النِّكاح، والطَّلاقُ، والرَّجعةُ)، وإن كانَ الحديثُ ضعيفاً إلّا أن الفقهاءَ قد اتّفقوا على معناهُ الذي يقتضي عدمَ قبولِ الهزلِ والمزاح في الحالات الثلاثِ المذكورة في الحديث وانعقادها من المتلفظ بها ولو كان مازحا، كما جعلوا في كتبهم أبواباً للحديثِ عن نكاحِ الهازِل وطلاقه ورجعته.
النكاح
يُعدّ عقد النّكاحِ من أهمّ العقودُ الّتي يعقدها المسلم، حيث يمسُّ استقرارَ الأسرةِ المسلمة، ولا شكَّ في أنّ الرّوابطَ التي تُبنى عليه كثيرةٌ وحسّاسة، ويوجد في السّنة النبوية بيانٌ وتوضيح لخطورةِ الهزل وعدمِ الجدّية في اتّخاذ قرار النّكاح، فرتب آثاره على من أراد الهزلَ والمزاح فيه.
فرأى جمهور العلماءِ من الشافعية، والحنفيةِ، والحنابلة، والمشهورُ عندَ المالكية، أنّ نِكاحَ الهازل ينعقدُ زواجا صحيحاً، وهزله باطلٌ لا أثرَ له. وقد بيّن الإمامُ مالك -رحمه الله- صورةَ الهزلِ في النّكاحِ على الوجه الآتي: أن يقولَ رجلٌ لآخر مازِحاً: زوج ابني من ابنتك، فيقبل الثّاني مازِحاً كذلك، قائلاً: زوجته إياها، فهذا يَقَعُ لازِماً صحيحاً ولو اعترضا عليه بعدمِ قصدهما ذلك.
كما يرى أبو حنيفة -رحمه الله- بأن صورة الهزل في أصل النكاحِ تكون بتصريح الهازلِ بزواجه من المرأةِ هزلاً أمام الشّهودِ، ثمّ جريانُ عقد النّكاحِ بموافقةِ المرأة على ما قال، ويَجعلُ مثل هذه الصورةِ لازمةً بالقانون كما لو كانت بغيرِ هزلٍ فيكونُ العقدُ صحيحاً و الهزلُ باطلٌ ولو وافقت المرأة عليه.
الطلاق
الحالةَ الثانية الّتي نصَّ عليها الحديثُ المذكورُ فيما تقدّم هي حالةُ الطلاق ، وينبني عليهِ عدمُ اعتبارُ الهزلِ والمزاح في الطّلاق، وجريانهُ فيه كما لو كانَ جَدياً، فلو طلّق رجلٌ زوجته مازِحاً أو لاعباً يقعُ الطلاقُ صحيحاً، وهذا الحكمَ قد جُعِلَ لصيانةِ الأسر المسلمة عما يهدد استقرارها وإن كان على سبيل المزاح، فلو لم يكن طلاقُ الهازِل مُنعقداً لاستسهلَ أمر الطلاقِ، بدعوى المزح واللعب؛ لذا كانَ الحكمُ حازماً.
فسواءٌ أقصدَ التّطليقَ أم لم يقصد؛ فإنّ الطلاق يقع بألفاظه، ويترتبُ عليه ما يترتبُ على الطلاقِ المنعقدِ بالألفاظِ الصريحةِ والإرادةِ الكاملة، وهذا ما اتّفقَ عليه جمهور العلماءِ من الشافعية، والحنفية، والحنابلة، والمشهورُ عند المالكية .
الرَّجعة
الحالةَ الثالثة التي نصَّ عليها الحديثُ المذكورُ فيما تقدّم هي حالةُ الرّجعة -و الرّجعةُ ؛ وهي إرجاعُ الزوجةِ إلى عصمةِ الزّوج بعد تطليقها وقبلَ انتهاءِ عُدّتها-، وينبني عليه عدمُ جوازِ التلاعبُ والمُزاحُ في أمرِ الرّجعةِ، كأن يقول الزّوجِ لزوجته المطلقة قبل انتهاءِ عدّتها: أرجعتكُ إلى عصمتي، ثمّ يدّعي أنّه قالها مازِحاً هازِلاً، فلا يُقبلُ منه ذلك وتعتبرُ الرّجعةُ حاصلةً، وتعودُ إلى عصمته شاءَ أم أبى.
وإنّ من رواياتِ الحديثِ ما نُصَّ فيها على العتقِ بدلاً عن الرّجعةِ، -والعتق هو تحرير العبد المملوك-، ومن تلكَ الروايات ما يأتي: (ثلاثٌ جِدُّهنَ جِدٌّ، وَهزلُهنَ جِدٌّ: الطَّلاقُ، والعِتاقُ، والنِّكاحُ)،
ما الحكمة في أنّ الجدّ والهزل جِدّ
وذلكَ لأنّها جميعاً تمسُّ حقوقَ الله -عز وجل-وحقوق عباده وليسَ ذلكَ محلّاً للمُزاحِ أو الاستهزاءِ، فالمُزاحُ لا يكون في شأنٍ من شؤونِ الدّينِ المُشتملة على حقٍ لله -عز وجل- قط، وما كانَ المزاح في أيِّ تصرّفٍ تتأثرُ به تركيبةُ الأسرةِ المسلمة ويترتّبُ عليه آثارٌ خطيرة، كعقدِ النّكاح والطلاقِ والرّجعة.
فالنّكاحُ ميثاقٌ غليظ كما سمّاه الله -عز وجل- في كتابهِ الكريمِ، والطّلاق مسألة مجتمعيّة عظيمة، والرّجعةُ كذلك، وجميعها يصعبُ جداً تقبّلُ الهزل فيها؛ لما قد ينبني على ذلكَ من زعزعةٍ لاستقرارِ الأسرةِ المسلمة.
وقد منعَ القرآنِ الكريمِ الاستهزاءَ بآيات الله -عز وجل-، بل وأقرَّ وجوبَ الاتّعاظ بها، وأحكامُ الطّلاقِ والنّكاحِ والرّجعةِ جميعها منصوصٌ عليها في القرآن الكريمِ، حيث قال الله -تعالى- في سورةِ البقرةَ في سياق الحديث عن آياتِ الطلاقِ مُخاطباً المؤمنينَ: (وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّـهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مِّنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُم بِهِ).