تفسير قوله تعالى (ومن الليل فتهجد به نافلة لك)
التفسير الإجمالي للآية ومناسبتها
وردت الآية الكريمة في مقطع من سورة الإسراء يحث النبي الكريم على الابتعاد عن شواغل الدنيا ومتاعبها، واللجوء إلى مناجاة مَن بيده مقاليد السماوات والأرض؛ ليرتقي به ذلك روحياً، فيتحمَّل تبعات الرسالة العظيمة التي يحملها.
والعمود الفقري لتربية الشخصية المسلمة يكون بوصلِهِ بربه، وبتقوية ثقته بخالقه الذي يُصرّف كل الأشياء، فأمرَ الله نبيَّه الكريم بالإقبال على عبادته، وألا يشغل قلبه بما سواه، وأبرز الوسائل المعنية على ذلك الإقبال: التهجد.
ولقد أشارت الآية الكريمة إلى أفضل سبيل للوقاية من التأثر النفسي بكيد الكفار واستفزازهم وشبهاتهم، وهو إهمالهم وتغافلهم؛ عن طريق شغل القلب بالإقبال على ربه بالعبادة فينصره عليهم.
وبذلك لا يبالي بسعيهم ولا يلتفت إليهم؛ فإنه -سبحانه- يدفع مكرهم؛ وليس هذا فقط بل وعده بمقام يحمده عليه الخلق أجمعون: هو مقام الشفاعة، فقال له: (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا).
التفسير التحليلي للآية
سنذكر فيما يأتي بيان لأبرز معاني المفردات والتراكيب الواردة في الآية:
- (وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ)
الفرق بين قيام الليل والتهجد: أنَّ قيام الليل ممكن أن يكون بعد سنة العشاء وقبل النوم، لكن التهجد لا يكون إلا بعد نومٍ ثم القيام من النوم؛ لأنَّ الفعل: "هَجَدَ" معناه: نام، فيكون التهجد: إلقاء الهجود، وهو النوم.
- (نَافِلَةً لَكَ)
سبب التخصيص بقوله: (لَكَ) ليس لعدم قبول القيام من غير النبي الكريم؛ بل للتنويه بأنَّ قيام الليل ليس نافلة لأحد غير النبي الكريم؛ لأنه لا أحد إلاَّ وهو محتاج لقيام الليل؛ لأنه يخاف على نفسه من تقصير العبادات فيحتاج لجبرها بالنوافل، ولكنَّ النبيّ الكريم معصوم من ذلك النقص، كما أنه قد غُفر له ما تقدّم من ذنبه وما تأخَّر، ولذلك فإن عمله نافلة.
- (عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا)
المقام المحمود هو مقام الشفاعة العظمى لبدء محاسبة الخلق بعد انتظار الناس فترة طويلة؛ لأنَّ هذا المقام يَحمد النبيَّ فيه كل الناس مسلمهم وكافرهم، أولهم وآخرهم.
معنى فِعل الرجاء (عَسَى) إذا صدر مِن الله تبارك وتعالى
فعل الرجاء (عَسَى) مِن الله -تعالى- واجب النفاذ لا يحول بين حدوثه أي مانع؛ لأنه -تعالى- لا يمنعه مانع مِن أن يثيب عباده بما يعدهم، ولا شيء يمنعه من أن يفعل بهم ما أطمعهم فيه.
ولكن القرآن نزلَ على عادات العرب في خطابها؛ ومِن أساليب خطاب السلطان العظيم -إذا التمس المحتاجُ منه شيئاً-، أنْ لا يجيب إلى طلبه إلا على سبيل الترجي ؛ لينبِّهه وينبِّه السامعين بأنه ليس لأحد أن يلزمني بشيء، ولا أن يُكلفني بما لا أريد.
وهذه الآية الكريمة جرت على عادة أكابر أولياء الأمر، فيقولون للسائلين: "لعلي أنظر في أمركم"، فينبههم إلى أنَّ الأمر متروك لي، وأنتم لا تلزموني بما طلبتم، وبهذا تظهر المِنة له عليهم، وتبقى الرعية على وجلٍ، وقد أورد ابن المقفع في باب ما ينبغي للسلطان نحو رعيته: "احرص على أن توصَفَ بأنك لا تعاجل بالثواب ولا بالعقاب؛ ليكون ذلك أدوم لِخَوفِ الخائف، ورجاء الراجي".