تفسير سورة السجدة
القرآن حقٌ منزّل من الله تعالى
افتتحت سورة السجدة بالحديث عن القرآن الكريم، وبيّنت الآيات من (1-3) أنَّ القرآن منزل من عند الله ولا شكّ فيه كما يَدعي الكفار أن الرسول عليه الصلاة والسلام افتراه على الله، ثم بين- سبحانه- الحكمة في إرساله صلى الله عليه وسلم وفي إنزال القرآن عليه لهدايتهم، فقال: (لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).
دلائل قدرة الله في الكون
تحدثت الآيات من (4-9) عن قدرة الله في خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام وهو قادر على خلقهن في لحظة ولكنّ ليعلم عباده التأني والتثبت في الأمور، (ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ)، وهذا إشارة إلى استعلائه وهيمنته على شؤون خلقه، وأمّا كيفية الاستواء على العرش، فذهب سلف الأمة، إلى أنّه صفة الله- تعالى- بلا كيف ولا انحصار ولا تشبيه ولا تمثيل، فليس كمثله شيء.
ثم بيّن-سبحانه- صفاته العَليّة فهو المدبر للأمر في جميع شؤون الكون بصورة متقنة، وإليه يصعد ذلك الأمر في يوم كان مقداره ألف سنة ممّا تعدون في الدنيا، وهو علام الغيوب الذي لا يخفى عليه شيء، وهو الخالق المبدع، الذي أحسن خلق كل شيء في أحسن صورة، وذكرت الآيات مراحل خلق الإنسان، قال تعالى: (وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ)، [5] والمقصود آدم عليه السلام.
قال تعالى: (ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلالَةٍ مِّن مَّاء مَّهِينٍ)، أيّ ذرية آدم عليه السلام خُلقت من ماء مهين وهو السائل الذي يخرج من الرجل، ثُم أتم خلق الإنسان ونفخ فيه من روحه، أيّ من قدرته ورحمته، التي صار بها هذا الإنسان إنساناً كاملاً في أحسن تقويم، وأنعم عليه بالسمع الذي يسمع به والبصر الذي يبصر به والفؤاد الذي يعقل به، قال تعالى: (قَلِيلا مَّا تَشْكُرُونَ) ، وبيّنَ موقف الإنسان من هذه النعم.
إنكار المشركين للبعث وحالهم يوم القيامة
تحدثت الآيات (10-14) من سورة السجدة عن شبهات المشركين وتكذيبهم ب البعث قال تعالى: (وَقَالُوا أَئِذَا ضَلَلْنَا فِي الأَرْضِ أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ كَافِرُون) ، قال المشركون المكذبون بالبعث: إذا متنا وبَلِينَا وتمزقنا، وصارت أجسامنا ترابا، فهل نُبعث أحياء من جديد، بزعمهم أن هذا من أبعد الأشياء، وكلامهم هذا، ليس لطلب الحقيقة، وإنما هو ظلم، وعناد، وكفر بلقاء ربهم.
قال تعالى: (قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ)، أيّ الملك الذي جعله الله وكيلاً على قبض الأرواح، فيجازيكم بأعمالكم، وقد أنكرتم البعث، فانظروا ماذا يفعل الله بكم، ولما ذكر تعالى رجوعهم إليه يوم القيامة ، ذكر حالهم في ذلك الموقف: (نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ)، خاشعين خاضعين أذلاء، مقرين بجرمهم، يطلبون من الله الرجوع بعد أن بان لهم الأمر وصار يقيناً عندهم.
ولو شئنا لهدينا الناس كلهم، وجمعناهم على الهدى، فمشيئتنا صالحة لذلك، ولكنّ الحكمة تأبى أن يكونوا كلهم على الهدى، ولكنّ حق القول من الله، قال تعالى: (لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ)، فهذا الوعد، لا بدّ منه، ولا محيد عنه، فلا بد من تقرير أسبابه من الكفر والمعاصي.
وفي ذلك اليوم يقال للمجرمين، الذين ملكهم الذل، وسألوا الرجعة إلى الدنيا، ليستدركوا ما فاتهم، قد فات وقت الرجوع ولم يبق إلا العذاب، فذوقوا العذاب الأليم غير المنقطع، بما نسيتم لقاء يومكم هذا، وبما كنتم تعملون من الكفر والفسوق والمعاصي.
علامات الإيمان
تحدثت الآيات من (15-17) عن المؤمنين وصفاتهم فالمؤمن الحقيقي إذا ذُكرَ بآيات الله اتعظ بها وخرّ ساجداً لله تذللاً له وخشية لعظمته وإقراراً بالعبودية، (تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ) ويقصد بها قيام الليل، ويدعون الله خوفاً وطمعاً في عفوه، وينفقون ممّا رزقهم الله، مع يقينهم بالله تعالى أنَّه سوف يجازيهم خير الجزاء بما كانوا يعملون.
الجزاء العادل في الآخرة
تحدّثت الآيات (18-22) عن الجزاء العادل الذي أعده الله لعباده في الآخرة، فلا يستوي جزاء المؤمن وجزاء الفاسق، فالذين آمنوا وعملوا الأعمال الصالحة فلهم الجنة ومُقامهم فيها، والذين فسقوا أي خرجوا من الإيمان إلى الكُفر مُقامهم جهنّم، قال تعالى: (كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها).
أي كلما دفعهم لهب النار إلى أعلاها ردوا إلى موضعهم فيها، ويقول لهم خزنة النار ذوقوا العذاب الذي كنتم تكذبون به. قال تعالى: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى)، أيّ مصائب الدنيا وأسقامها، والعذاب الأكبر يُقصد به عذاب يوم القيامة، وليس هناك أظلم ممّن جاءته الحجج والبراهين من ربه فأعرض عن قبولها، وهؤلاء سوف ينتقم منهم الله تعالى ويعذبهم.
الإمامة في الدين
تحدثت الآيات (23-25) عن إيتاء موسى التوارة وجعله هدى لبني إسرائيل، يهتدون به في أصول دينهم وفروعه، وقد اصطفى الله تعالى بعض أتباع موسى بأن جعل منهم أئمة للدين بما صبروا على الشدائد، ولشدّة يقينهم بلقاء الله تعالى، وأشار الخلاف الذي وقع بين بني إسرائيل في المسائل، لذلك جاءت الآيات لتؤكد على أن الله يحكم بين الناس يوم القيامة فيما كانوا يختلفون فيه.
حتمية وقوع الفتح
خُتمت السورة بالحديث عن القرون السابقة في الآيات (26-30) وكيف أنّ هؤلاء المكذبين للرسول عليه الصلاة والسلام، لا يتعظون بهم، وهم يشاهدون مساكنهم ويسكلون مسلكهم، أو لا ينظرون إلى قدرة الله كيف ينزل الماء على الأرض فيخرج لهم نباتاً مختلف الأنواع لهم ولأنعامهم.
قال تعالى: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ)، أي: يستعجل المجرمون بالعذاب، الذي وعدوا به على التكذيب، جهلاً منهم ومعاندة، قل في يوم الفتح لا ينفعكم إيمانكم بعد كفركم، فأعرض عنهم وانتظر لأمر الذي يحل بهم، فإنّه لا بدّ منه، ولكن له أجل، إذا جاء لا يتقدم ولا يتأخر.