تفسير سورة الحديد
مظاهر قدرة الله وإبداعه في الخلق
تبرز الآيات الكريمة (1-6) جملةً من مظاهر قدرة الله -سبحانه وتعالى- وعظمته وإبداعه الذي يتجلى بمخلوقاته، فهي تبدأ بوصف تنزيه جميع المخلوقات في السماء والأرض له -سبحانه وتعالى-، والتسبيح قول بالألسن للمخلوقات العاقلة أو بالدلالة للمخلوقات غير العاقلة على تنزيه خالقها، أو حتى بلغة لا نفقهها.
كيف لا تسبحه الخلائق وهو مالك السماوات والأرض، يحيي من يشاء، ويميت من يشاء، ولا يعجزه شيء، فهو كان قبل كل شيء، وهو باقٍ بعد كل شيء، وهو الظاهر للعقول بالأدلة والبراهين، ولكنه باطن لا تدركه الأبصار، وهو العالم بكل العوالم -سبحانه وتعالى-.
ومن عظيم قدرته أنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وهو القادر لو شاء لخلقها في أقل من لمح البصر، ويعلم ما يدخل الأرض من كل شيء وما يخرج، وهو رقيب عليك أيها الإنسان، بصير بكل أحوالك، ويدخل الليل في وقت النهار تارة فيطول الأول ويقصر الثاني، ثم يعكسها حينا آخر، وهو العالم بدواخل الصدور.
الحث على الإيمان بالله والقيام بالأعمال الصالحة
تحث الآيات (7-11) المؤمنين على الإيمان بالله -سبحانه وتعالى-، وعلى القيام ببعض الأعمال الصالحة ؛ فهي تدعوهم للتصديق بوحدانية الله -عز وجل- بدايةً، وبصحة رسالة نبيه -عليه الصلاة والسلام-، وتأمرهم بالإنفاق من المال الذي رزقهم إياه الله -سبحانه وتعالى-، وترغبهم بذلك لنيل الأجرالكبير.
ثم توبخ الآيات الذين لا يؤمنون بالرغم من دعوة النبي -صلى الله عليه وسلم- لهم، وقراءته عليهم آيات من القرآن، والتي تخرج من يتأملها من ظلمات الجهل إلى نور الحق، وبالرغم من ميثاق الله -سبحانه وتعالى-؛ الذي أخذه عليهم عندما كانوا في عالم الذرّ، وبالآيات الباهرات التي بثها في كل مكان، الشاهدة على قدرته ووحدانيته.
كما تسأل الآيات عما يمنعهم من الإنفاق، مع أنه -سبحانه- مالك المال على الحقيقة، وإليه سيصير المال، بل إليه سيصير كل شيء!، وتبين أن من أنفق وقاتل من السابقين الأولين قبل فتح مكة، لا يتساوى في الأجر مع من أنفق بعد ذلك، مع أن الله -سبحانه وتعالى- سيجازيهم أجرهم جميعًا، كما تبين أن من أنفق فكأنما قدم الطاعة بين يدي الله -سبحانه-، وسيخلف له ذلك أضعافًا.
بيان جزاء المؤمنين وعاقبة المنافقين
تبين الآيات الكريمة من (12-15) مصير كل من المؤمنين و المنافقين ، وشتان بينهما، فالمؤمنون يسيرون على الصراط وتضيء أنوارهم لهم الطريق، ويحملون كتبهم بإيمانهم، وتتلقاهم الملائكة ببشرى دخول الجنة أبدًا.
في حين يهيم المنافقون في ظلام دامس، ويستنجدون بالمؤمنين ليعطوهم شيئًا من نورهم فلا يجابون إلى ذلك، بل يُقال لهم بأن يعودوا إلى الدنيا، ويعملوا الصالحات، ولكن هيهات هيهات.
ثم يُفصل بين الفريقين بحاجز؛ من جهة جنة المؤمنين، ومن الأخرى عذاب المنافقين، ويحاول المنافقون أن يتوسلوا إلى المؤمنين بأنهم كانوا يرافقونهم إلى صلواتهم وأعمالهم الصالحة، فيذكرهم المؤمنون بأنهم ما فعلوا ذلك إلَّا نفاقًا، وأنهم لطالما تحالفوا مع الأعداء وتمنوا هزيمة المسلمين، ولكن خاب أملهم والنار مكانهم الأنسب، ولن يستطيعوا الخروج منها بأي وسيلة.
تشجيع المؤمنين على التوبة إلى الله وكثرة الصدقات
تشجع الآيات (16-19) المؤمنين على التوبة والخشوع لله، والذلة لأوامره -سبحانه وتعالى-؛ حتى لا يصير مصيرهم كأصحاب الكتب السابقة، الذين طالت الأزمان بينهم وبين أنبيائهم فأصبحت قلوبهم قاسية، لا تخشع ولا تستجيب للمواعظ التي تلقى عليهم، وتبين الآيات الكريمة لهم أن مواعظ القرآن تحيي القلوب الغافلة القاسية، كما يحيى المطر النبات، وهي دعوة للتدبر.
ثم تحضّهم الآيات على الإنفاق في سبيل الله -سبحانه وتعالى-، وتعدهم بالأجر الكبير، ثم تبين أن من يؤمن بالله -سبحانه وتعالى-، ويعمل الأعمال الصالحة بما فيها الصدقات، يصل إلى مرتبة الصديقين، كما تبين منزلة الشهداء العالية.
مقارنة الحياة الدنيا بالحياة الآخرة
تقارن الآيات الكريمة (20-21) بين حقيقة الدنيا وحقيقة الآخرة؛ فتصف الدنيا بأنها مجرد لعب ولهو، وتفاخر بكثرة الأموال والأولاد، ويشبهها بالمطر الذي ينزل فيُعجب الزرَّاع بالنبات الذي يخرج بسببه، فما يلبث أن يجف ويصفرَّ وتلعب به الرياح، أما الآخرة ففيها الجنة الواسعة المعدَّة للمؤمنين، وهي التي تستحق التشمير والاجتهاد في طلبها.
علاقة المصائب بالقدر واللوح المحفوظ
تبين الآيات الكريمة (22-23) أنّ الدنيا لا بد فيها من حدوث المصائب، وهذه المصائب مقدرة منه -سبحانه وتعالى-، اقتضتها حكمته وسنته في الحياة، وهو عالم بوقوعها قبل أن تقع، وهي نتيجة حاصلة لما ذكرته الآيات الآنفة من الحضّ على القتال والشهادة، أو هي من مصائب الدنيا كالمرض أو الفقد وغيرها.
وهذه الآيات تبين أن كل ذلك معلوم عند الله -سبحانه وتعالى-، ومقدر وقوعه، كما توضح ما هو الموقف الصحيح للمؤمن تجاه المصائب والعطايا؛ فلا حزنه ولا جزعه سيغير المصاب، بل من الأفضل له الصبر عند المصيبة ، كما أنّه مطالب عند نوال العطايا بعدم الخروج عن حكمة التصرف بها؛ بل عليه أن يؤدي حق الله -سبحانه وتعالى- فيها.
الغاية من إرسال الرسل وقصصهم مع أقوامهم
تبين الآيات الكريمة (25-29) أن الله -سبحانه وتعالى- أرسل الرسل إلى أقوامهم، وأعطاهم الحجج والبراهين على صحة رسالاتهم، وبعث معهم القانون العادل ليحكم بين الناس، كما أنزل للناس الحديد الذي تصنع منه الآلات الحربية، وأدوات أخرى لا يُستغنى عنها في الحياة.
كما أنّها تحضّ المؤمنين على نصرة دينهم؛ باستخدام آلات الحرب المصنوعة من الحديد، مع أنه -سبحانه وتعالى- قادر على نصر دينه بنفسه، ولكن ليثيب المجاهدين، ويمتحن المؤمنين.
تبدأ الآيات بذكر نبي الله نوح وأبي الأنبياء إبراهيم -عليهما الصلاة والسلام-، وتبين أن من نسلهما المهتدين وفى مقدمتهم الأنبياء -عليهم الصلاة والسلام-، ولكن أكثرهم العصاة، وخصت بالذكر النبي الكريم عيسى -عليه الصلاة والسلام-.
والذي أعطاه الله -عز وجل- الإنجيل، وأمرهم باتباع رضوانه، واتصف أتباعه بالرحمة والشفقة، ولكن بعضهم أحدث الرهبنة من اعتزال الزواج، فجازى الله -سبحانه وتعالى- كلًا بما يستحق.
وتختم السورة الكريمة بخطاب توجهه للمؤمنين؛ ليتقوه -سبحانه وتعالى- وينالوا الأجر والنور، ويتذكروا فضل الله -سبحانه وتعالى- عليهم؛ بأن خصهم بالرسول الخاتم -عليه الصلاة والسلام-، لا كما زعم أهل الكتاب باختصاصهم بالرسالات دون الناس.