تفسير سورة الحاقة
الاستفهام عن الحاقة ودلالاته
قال الله -تعالى-: (الْحَاقَّةُ* مَا الْحَاقَّةُ* وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ):
جاء في الآيات الكريمة أسلوب الاستفهام؛ لتفخيم وتعظيم شأن الحاقة، فالحاقة اسم من أسماء يوم القيامة، أحقّت للمؤمنين الجنة، وأحقّت للكافرين النار، وفي قوله -سبحانه-: (وَمَا أَدْرَاكَ)؛ خطاب موجه للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أي ما أعلمك لولا أن الله -عزوجل- علمك شأنها؟ وقال أهل بعض العلم: كل ما جاء بهذه الصيغة، فإن الله -تعالى- سيطلعنا ويعلمنا إياه، وكل ما جاء بصيغة (وما يدريك)؛ فإنه لم يطلعنا عليه بعد.
الأقوام المكذبة وهلاكها
جاء في سورة الحاقة، ذكر عدد من الأقوام وما آلت إليه من العاقبة، وهذه الأقوام هي:
- قال الله -تعالى-: (فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ)، فثمود هي قبيلة سيدنا صالح -عليه السلام-، أهلكهم الله -عزوجل- بالصيحة الشديدة التي طغت وزادت عن حدّها، فلم يستطيعوا السيطرة عليها، فكل شيء يأتي من عند الله يكون بقدر؛ كقطرات الماء، والرياح، إلا أن الصيحة تجاوزت الحد، فلا حصروها ولا قدروا مقدارها.
- قال -تعالى-: (وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ* سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَىٰ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ)، وعاد هي قبيلة نبي الله هود -عليه السلام-، كانت عقوبتها بالريح شديدة الصوت، شديدة البرد، ريح عقيم، لا تأتي بالخير، ولا بالبشرى، قال النبي -صلى الله عليه وسلم- فيها: (نُصِرْتُ بالصَّبا، وأُهْلِكَتْ عادٌ بالدَّبُورِ)، والصبا ريح الخندق، والدبور ريح عاد العقيمة، لا تلد الخير، ولا ينتج عنها أي خير، بل هي نوع من أنواع الشر، جعلها الله -سبحانه- متتابعة، متواصلة، لا تسكن، ولا تهدأ، حتى حسمت أمرهم بعد أن أهلكتهم، وجعلتهم كأصول النخل الفارغة، فلم تبقِ لهم أثراً.
- قال -تعالى-: (وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ* فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً)، والمؤتفكات؛ هم قوم لوط، وأما الخاطئة؛ فهي الذنب العظيم؛ وهوالشرك، ففرعون والأقوام التي سبقته، وقوم لوط الذين جاءوا بالفاحشة، جميعهم اشتركوا بالآثام والذنوب الكبيرة، كما أنهم عصوا رسلهم موسى ولوط -عليهما السلام- حتى جاء العقاب بعد العصيان، فأخذهم الله -سبحانه- أخذة شديدة، وجعل مصيرهم عذاباً أليماً.
- قال -تعالى-: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)، لقد ذكر قوم نوح -عليه السلام- وعذابهم بالطوفان؛ لبيان فضله -سبحانه- وامتنانه على الأقوام من بعدهم، فلولا نجاة آبائهم، وهلاك أعدائهم، ما كان لهم وجود، فحملت الآية معنى التذكير بالنعمة، والتذكير بإهلاك الأعداء.
أهوال يوم القيامة
صوّرت سورة الحاقة عدداً من مشاهد وأهوال يوم القيامة، وفيما يأتي بيان لهذه المشاهد:
- قال -تعالى-: (فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ)، فهذه النفخة هي لحظة إعلان قيام الساعة، فلا يبق أحد، وتموت جميع الخلائق، فهي نفخة أخيرة لا تُثنّى.
- قال -تعالى-: (وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً) ، فتُرفع الأرض والجبال من مكانهما، كأنهما قطعة واحدة، فتزلزلا، وتُفتّتا، وتتكسّرا، ثم تبسطا مرة واحدة.
- قال -تعالى-: (فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ* وَانْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ)، أي حانت الساعة، وقامت القيامة، فتتصدع السماء، وتنفطر، وتزول، وتصبح كالقطن أو الصوف؛ لضعفها وهول يوم القيامة، وقيل لنزول الملائكة منها.
- قال -تعالى-: (وَالْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ)، بعد زوال السماء وتشققها، تنزل الملائكة إلى أطراف الأرض وحافاتها ينتظرون ما سيحدث للناس، ليفعلوا ما أُمروا به في حق كلٍ منهم، واختلف في تفسير ثمانية؛ ثمانية صفوف، أم ثمانية أصناف، أم ثمانية ملائكة وهي أرجح الأقوال؛ لكثرة الأخبار الواردة في ذلك، وهذه الملائكة تحمل العرش يوم القيامة.
- قال -تعالى-: (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ)، أما العرض فيكون على الله -سبحانه- لتقرير الأعمال والمجازاة والحساب، فلا يبقى ما يخفيه الإنسان، ولا يبقى حال دون أن يظهر لصاحبه.
حال من أوتي كتابه بيمينه يوم القيامة
قال -تعالى-: (فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ* إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ* فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ* فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ* قُطُوفُها دانِيَةٌ)، وتعرض الآيات القرآنية حال صنفين من الناس وجزاءهم في الآخرة، وتبتدأ الآيات بذكر أول صنف، وهم أصحاب اليمين، فذكرت أن حالهم يكون كما يأتي:
- يتلقى كتابه بيمينه، ويطلب من الآخرين بفرح وسرور قراءته؛ لما علم فيه من خير، وحسنات من فضل الله -سبحانه-.
- علمه وإيمانه بهذا اليوم، وأنه واقع لا شك فيه، هو من جعله من هذا الصنف الفائز.
- غلبة الظن بأنه سيلقى حسابه.
- تكون عيشته ذات رضا، ترضي صاحبها، ويسر بها.
- سكنه يكون في جنة عالية الدرجات، وعالية المكانة، ورفيعة القصور، مليئة بالحور والسرور، والثمار فيها قريبة في متناول اليد لكل من أرادها.
- يأكل فيها ويشرب بهناء، لا مكروه يصيبه ولا سوء، فهذا جزاؤه لما قدم في الدنيا واجتهد فيها.
ندم أصحاب الشمال على تفريطهم يوم القيامة
قال -تعالى-: ﴿وَأَمّا مَن أوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقولُ يا لَيتَني لَم أوتَ كِتابِيَه* ولَم أَدرِ ما حِسابِيَه* يا لَيتَها كانَتِ القاضِيَةَ* ما أَغنى عَنّي مالِيَه* هلَكَ عَنّي سُلطانِيَه* خُذوهُ فَغُلّوهُ* ثُمَّ الجَحيمَ صَلّوهُ* ثُمَّ في سِلسِلَةٍ ذَرعُها سَبعونَ ذِراعًا فَاسلُكوهُ* إنَّهُ كانَ لا يُؤمِنُ بِاللَّهِ العَظيمِ* وَلا يَحُضُّ عَلى طَعامِ المِسكينِ* فَلَيسَ لَهُ اليَومَ هاهُنا حَميمٌ* وَلا طَعامٌ إِلّا مِن غِسلينٍ* لا يَأكُلُهُ إِلَّا الخاطِئونَ﴾:
تخبر الآيات الكريمة عن حال الأشقياء الذين يستلمون صحائفهم بالشمال، وهم الصنف الثاني من الناس يوم القيامة، فعندها يندمون أشد الندم، فيكون حال الواحد منهم كما يأتي:
- تمني الموت الذي لا شيء بعده؛ لا حساب ولا عذاب، ولا صحف أعمال.
- تحسره على ماله وجاهه اللّذيْن لم يغنيا عنه من الحساب شيئاً، بل انتهى أمره إلى الله -سبحانه- وحيداً.
- تأخذه زبانية العذاب ذليلاً، مربّطاً بالأغلال، ثم ترميه في نار جهنم في مشهد مخيف.
- يُغمر في نار جهنم وهو مقيد بسلسلة كبيرة ضخمة.
- سبب كل هذا العقاب عدم إيمانه بالله -سبحانه- وعدم طاعته، وامتناعه عن أداء حقوق الناس، ومنع الآخرين من عمل الخير والإحسان.
- ليس له من يشفع له من العذاب، أو قريب ينقذه من الحساب.
- لا طعام له، إلا طعام الشوك المرّ، فإذا أكله سال منه الدم، وتعذّب به.
قسم الله على صدق القرآن
قال -تعالى-: (فَلا أُقسِمُ بِما تُبصِرونَ* وما لا تُبصِرونَ* إنَّهُ لَقَولُ رَسولٍ كَريمٍ* وَما هُوَ بِقَولِ شاعِرٍ قَليلًا ما تُؤمِنونَ* وَلا بِقَولِ كاهِنٍ قَليلًا ما تَذَكَّرونَ* تَنزيلٌ مِن رَبِّ العالَمينَ* ولَو تَقَوَّلَ عَلَينا بَعضَ الأَقاويلِ، لأَخَذنا مِنهُ بِاليَمينِ* ثُمَّ لَقَطَعنا مِنهُ الوَتينَ* فَما مِنكُم مِن أَحَدٍ عَنهُ حاجِزينَ* وَإِنَّهُ لَتَذكِرَةٌ لِلمُتَّقينَ* وَإِنّا لَنَعلَمُ أَنَّ مِنكُم مُكَذِّبينَ* وَإِنَّهُ لَحَسرَةٌ عَلَى الكافِرينَ* وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليَقينِ* فَسَبِّح بِاسمِ رَبِّكَ العَظيمِ):
يُقسم الله -عزوجل- بما خلق مما يعلمه المكذبون وبما لا يعلمون، وفيه مبالغة؛ ليرد على زعمهم بأن النبي -صلى الله عليه وسلم- كاذب أو ساحر، وحاشاه ذلك، ويؤكد الله -سبحانه- على أن هذا القرآن الكريم ليس من قول النبي، وإنما هو كلامه -عز وجل- وتبليغ رسوله بواسطة جبريل -عليه السلام-، ولو أن هذا الرسول قال كذباً، أو بلّغ عن الله ما لا يصح كما يدعي هؤلاء الكفار، لعاقبه الله بأن أخذ قوته وقدرته كلها، وقيل: لَقَطع يده اليمنى، وكان حاله الإذلال والاستخفاف به، أو لكان القطع لشريان قلبه، أو حبل دمه.
ثم يؤكد الله -سبحانه- على أن القرآن كتاب تذكرة لأهل التقوى، من ينتفعون بما جاء فيه، ويُقبلون عليه، ومن يكذّب به سينال الوعيد الشديد، فالله يعلم المكذّبين المنكرين لهذا القرآن، فلا يكون عليهم إلا حسرة وندامة في الدنيا؛ لعجزهم عن الإتيان بمثله، وحسرة وندامة يوم القيامة حين يرون الحساب والجزاء، فهذا الكتاب هو عين اليقين، لا شك ولا ريب فيه، فتنزّه الله عن كل هذا الشرك، وتعالى عن كل هذا الكذب، طالباً من سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يسبّحه وينزّهه عن كل نقص.
ملخص المقال: سورة الحاقة سورة مكية، تحدثت عن عدة مواضيع تندرج تحت خصائص السور المكية، كالحديث عن أخبار الأمم السابقة وعذابها، والحديث عن يوم القيامة، وأحوال الناس فيه، والأهوال المصاحبة له التي تبدل حال الكون الذي اعتاد الناس على العيش فيه، ثم تختم السورة الكريمة بالحديث عن معجزة القرآن الكريم، وحفظ الله له، وصدق النبي -صلى الله عليه وسلم- في تبليغه، وجزاء كل مكذّب له مشكك لما فيه.