تفسير آية (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَىٰ رَبَّهُ..)
شرح الآية الكريمة
قال الله -تعالى-: (وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ* فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ).
هذا النبي يُحتذى به في صبره؛ صبر أيوب، حيث كان أيوب -عليه السلام- نبياً مرسلاً إلى بني إسرائيل ، ولبث فيهم سبع سنين يدعوهم إلى الله -تعالى-، فلم يُجبه إلّا ثلاثة، وكان كثير المال والولد، وبارك الله له فيما آتاه، وكان أعبد وأشكر خلق الله في زمانه، وذُكر في بعض الكتب أنّ إبليس حسده على إيمانه، واعتقد أنَّ سبب عبادة أيوب -عليه السلام- لله وشكره على النعم هو وجود هذه النعم، فلو انتُزعت منه لكفر بالله -عزَّ وجلّ-.
وقد ابتلى الله نبيّه أيوب باستلاب النِّعم الظاهرة؛ ليظهر فسادَ اعتقادِ إبليس، وأصاب البلاء أموال أيوب -عليه السلام- وأهله حتى أهلك الحرث والنسل شيئاً بعد شيء، فلما بلغ أيوب -عليه السلام- هلاك ماله وولده حمد الله حمداً كثيراً وقال: "اللّهمّ إنَّه كان يشغلني مالي وولدي عن عبادتك، والآن قد فرغ لك سمعي وبصري وقلبي وليلي ونهاري".
ثمَّ أصاب سيّدنا أيوب -عليه السلام- المرض، ولم يسلم منه إلاَّ قلبه ولسانه وعقله، ولبث في ذلك البلاء سنوات طويلة، وقيل: سبع سنوات، ولم يبقَ معه أحد إلا امرأته. وقد تباطأ تلك السنين عن الدعاء؛ استحياءً من الله الذي أكرمه كثيراً، وقال: أفلا أصبر على ما ابتلاني به؟ وحينها دعا الله -تعالى- وقال: (أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) ؛ أي يا ربِّ رحمتك عظيمة، وأنت تعلم ما بي من بلاء، وما الذي أريده، فلتسعني رحمتك.
استجابة الله لدعاء أيوب
قال الله -تعالى-: (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ* ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ* وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا)، وها هي الاستجابة سريعاً قد أتت.
حيث أوحى الله إليه أن قُم واركض برجلك، ففُجِّرت له الينابيع واغتسل وشرب منها، وشافاه الله مما كان فيه من مرض وبلاء، وصحَّ جسده وتعافى؛ بفضل الله جزاء صبره، قال -تعالى-: (فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ) ، وهذه كانت استجابة الله لدعاء نبيه برفع السَّقم عنه وكشف الضُّرِّ الذي ألمَّ به لسنين.
وجزاء لصبره وهب الله له أبناءه وماله مضاعفاً، فأعاد الله له ماله الذي هلك ومثله معه، وقيل وضعت له زوجته أبناءً وبناتاً ضِعف الذين ماتوا، فكان هذا رحمة الله به لصبره وشكره، وحَفظ الله له مكانته في الآخرة فدرجته عظيمة، ومكانته رفيعة، وأجره وافٍ على صبره.
دروس وعبر من صبر أيوب
تعلّمنا قصة نبي الله أيوب -عليه السلام- كيف يهب الله للصابرين أضعافا مضاعفة جزاءَ صبرهم على ما ابتلاهم به ، فقد قال -تعالى-: (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ* الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ)، وسبحان الله كيف يسوق البلاء إلى العبد ليزيده نعيماً إن صبر.
وها هي البشارة من الله -سبحانه وتعالى- للصابر على ما ابتُلِي به، وقد لا يصل المسلم لصبره وعبادته، لكنّه -عليه السلام- قدوة لنا في الصبر كما نبينا محمد -صلى الله عليه وسلم- ، فالصابر على البلاء حين يتوجَّه إلى الله بالدعاء، ويشكو إلى الله ما هو أعلم به منه، ويكون مؤمناً بإجابة الله، وصادق القلب معه -سبحانه-، يَجْبُره الله ويكشف الغمَّة ويرفع النقمة ويزيل البلاء.
الجمع بين الصبر والدعاء
معنى الصبر في اللغة: حبس النفس عن الجزع والشكوى، أما الدعاء: هو اللّجوء إلى الله والثناء عليه وعبادته، ولا يتنافى معنى الصبر مع الدعاء، فنبيُّ الله أيوب -عليه السلام- لم يترك الصبر حين دعا الله، ولو لم يستجب له الله دعاءه لبقي راضياً صابراً، فسمَّاه الله -تعالى- صابراً.
وترْك الصبر يكون بإظهار الشكوى إلى الخلق، أمّا إظهارها إلى الله -تعالى- ودعائه ورجائه لا يعني أنّ هذا الإنسان غير صابر، وقيل إنَّ إظهار الألم للناس مع رضا القلب رضاً تامّاً لا يكون ترْكاً للصبر كذلك، فالصبر والدعاء متلازمان، وإن وقع ما يُكره للإنسان، ثم فزع لبارئه ودعاه، فهذا هو عين الصبر والتوكّل على الله.