تفسير آية (ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي)
تفسير آية (ويسألونك عن الروح)
(وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ)
أراد بعض اليهود امتحان النبي -صلى الله عليه وسلم- وإثبات عدم صحة نبوته بسؤاله عن الروح التي هي سر الحياة، فموجود عندهم في كتبهم أن الروح لا يستطيع أحد معرفة ماهيتها؛ لذلك حين أجابهم النبي الكريم قال بعضهم لبعض معاتبين: قلنا لكم لا تسألوه، فكذلك نجد مثله في كتبنا الدينية: إن الروح من أمر الله تعالى.
(قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي)
الظاهر أنهم سألوا عن كيفية دخولها للجسد الميت فيصبح حياً، والعكس، وكلاهما مشكِل لا يعلمه أحد إلاّ الله -سبحانه- وتعالى. والمسألة هذه قد أثارت فضول كثير من الفلاسفة، كيف تدخل الروح النفس وتبث فيها الحياة؟ وقد ذكَر ابن دقيق العِيد أنَهَ رأى كتاباً لبعض الفلاسفة يناقش الآراء حول حقيقة النفْسِ ، فوجد فيه حوالي ثلاثمئة رأي، حتى قال -رحمه الله- معقباً على ذلك: "وكثرُة الخلافِ تؤذنُ بكثرة الجهالاتِ".
(وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)
أي إن علمكم قليل يتناسب مع حاجتكم ودوركم في الحياة، ولا تستطيع عقولكم استيعاب كل العلوم والمعارف؛ لِقِصَر أعماركم، ولمحدودية تجاربكم، فما أطلعكم مِن علمه إلا على القليل، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء تبارك وتعالى. والمعنى: "إنَّ عِلمكم في علم الله قليل، وهذا الذي تسألون عنه -مِن أمر الروح- مما استأثر به تعالى، ولم يطلعكم عليه، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من علمه تعالى".
أسباب نزول الآية
قال تعالى في سورة الإسراء : (وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا)، وللآية سببان للنزول مشهوران في كتب أسباب النزول: وسبب النزول الأول هو الأصح؛ لكنه يقتضي أن هذه الآية من سورة الإسراء مدنية، بينما سبب النزول الثاني هو الأشهر ويوافق المعروف بأن سورة الإسراء كلها سورة مكية ، بحسب التفصيل الآتي:
سبب النزول الأول
عن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: (بَيْنَا أَنَا أَمْشِي مَعَ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فِي خَرِبِ المَدِينَةِ، وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عَسِيبٍ مَعَهُ، فَمَرَّ بِنَفَرٍ مِنَ اليَهُودِ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ؟ وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لاَ تَسْأَلُوهُ، لاَ يَجِيءُ فِيهِ بِشَيْءٍ تَكْرَهُونَهُ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَنَسْأَلَنَّهُ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ، فَقَالَ يَا أَبَا القَاسِمِ مَا الرُّوحُ؟ فَسَكَتَ، فَقُلْتُ: إِنَّهُ يُوحَى إِلَيْهِ، فَقُمْتُ، فَلَمَّا انْجَلَى عَنْهُ، قَالَ:[الآية]).
سبب النزول الثاني
عن ابن عباس رضي الله عنهما، قَالَ: (قَالَتْ قُرَيْشٌ لِيَهُودَ: أَعْطُونَا شَيْئًا نَسْأَلُ هَذَا الرَّجُلَ، فَقَالَ: سَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَسَأَلُوهُ عَنِ الرُّوحِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى[الآية])، والأفضل اعتماد سبب النزول الأول؛ لأنه الأصح سنداً ومتناً. مع إمكانية الجمع بين سببي النزول بالقول بأنَّ الآية نزلت مرتين: مرة في مكة المكرمة قبل الهجرة، ومرة في المدينة المنورة بعد الهجرة؛ لأنه من الممكن أن تتعدد أسباب النزول والآية النازلة واحدة.