تفسير آية (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)
تفسير آية (ما من دابة إلا هو آخذ بناصيتها)
مناسبة الآية وسياقها
وردت الآية في سياق الحديث عن قصة النبي هود مع قومه حين كان يحاورهم في إثبات وحدانية الله ، فقال لهم: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ).
وذلك بعد أن اتّهمه قومه بإصابته بمسٍّ مِن الجنون مِن آلهتهم: (اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ)، بسبب صده للناس عنهم وسبه إياها؛ معللين ذلك بأنَّ الذي يجعل الآلهة إلهاً واحداً يتكلم بنوع من الهذيان الخارج عن قانون العقل.
التفسير الإجمالي للآية
يقول النبي هود لقومه: لن تثنيني اتهاماتكم لي عن الاستمرار في دعوتي، فإنني متوكل على ربي، ففوّضت أمري له -سبحانه وتعالى-، رغم ضعفي في مواجهتكم وقلة عدد مناصريَّ، ورغم تفوقكم في قوتكم وكثرة أنصاركم.
إلا أنَّ ما سيمنعني من الاستمرار في دعوتكم هو إلهي وليست قوتكم، إلهي الذي يمسك بمراكز السيطرة على كل المخلوقات في وقت واحد وبنفس المستوى من القدرة، فما مِن دابّة تدبّ على الأرض إلا وهي تحت سلطان قدرته، وفق نواميس وسنن حق ثابتة لا تتغير.
التفسير التحليلي للآية
تفسير الآية التحليلي يتلخص بما يأتي:
- أعطى النبي هود قومه دليلاً على عدم خشيته من أصنامهم، وبرهاناً عملياً على أنها لا تستطيع إصابته بأي ضرر، وقال: إني وكلت أمر حفظي وخذلانكم إلى الله معتمدا عليه وحده، فمهما بذلتم من غاية وسعكم فلن تضروني؛ فإني متوكل على الله، واثق بحفظه.
- جاء قوله (تَوَكَّلْتُ) بلفظ الماضي؛ لكونه أدلَّ على الإنشاء المناسبِ للمقام؛ فالماضي قطعي لا يتخلَّف بعكس المضارع الذي قد يتخلف بسبب موانع قد تطرأ أو لعدم وجود شروط وجوده في المستقبل.
وإنَّ ما قام به النبي هود يُعد معجزة خارقة للعادة ؛ لأنَّ الرَّجُل الواحدَ إذا أقبل على القوم العظام ثم تحداهم أن يبالغُوا في عداوته وإيذائه، فإنَّه لا يقُولُ هذا الكلام إلاَّ إذا كان يأوي إلى ركنٍ شديدٍ له قوة وسلطان أقوى من قوة عدوه المجتمعين، وهذا سر كلمته الحاسمة: (إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ)؛ أي: إنَّ اعتمادي على الله ربِّي وربِّكُم.
- الناصية: مقدمة منابت الشعر في الرأس الطبيعي، وإن قيل: لماذا خصَّ الناصية بالذكر دون باقي أعضاء الجسم؟ فالجواب: هذا المعنى يعرفه الذين يعرفون عادات العرب المعاصرة لزمن تنزيل القرآن ؛ فقد كانت العرب تستعمل هذا الوصف كناية عن الخضوع والمذلة، فتقول: "ما ناصية فلان إلا بيد فلان".
ويقصدون بذلك: أنه له، يطيعه بكل ما يريد، ويصرِّفه كيف يشاء، وأصل هذا الوصف أنهم كانوا إذا أَسَروا أسيراً فأرادوا إطلاقه والمنِّ عليه، جزّوا ناصيته؛ إهانةً له وتفاخراً عليه، فخاطبهم الله بما يعرفون في كلامهم.
- بعد أن ذكر بأن سلطان ربه الذي يتوكل عليه قاهر لجميع المخلوقات، أخبر بأنه (عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ): يعني أنه لا يخفى عليه أي مستتر، ولا يفوته أي هارب؛ فقد ذُكر الصراط المستقيم ويُقصَدُ به الطريق الواضح الذي لا يكون لأحدٍ في المنطقة مسلكٌ إلا عليه، ويمكن أن يُحمل المعنى على أنه يدُل من يشاء على الصراط المستقيم ويحثه عليه، أو يحملكم بالدعاء إليه.
- من الممكن أن يخاطب هود قومه مبشّرهم بأن باب التوبة مفتوح لكم، وبأن ربي -وإن كان قادراً وأنتم في قبضته كالعبد الذليل- ولكنه -سبحانه وتعالى- لن يظلمكم، فإن تبتم واستغفرتم سيقبل توبتكم، فإنه يعامل مخلوقاته بالإحسان والإنصاف والعدل، فهذا الرب الكريم العدل يجازي المحسن بإحسانه، ويجازي المسيء بعصيانه.
ما ترشد إليه الآية
من الممكن استنتاج عدد من الدروس والعبر التي ترشد إليها الآيات بحسب ما يأتي:
- الأصل في المسلم أن يتوكل على الله خالقه قاهر المخلوقات، المتصرف بسنن الكون كيف يشاء، وهذا من أصول الإيمان .
- صدق التوكل على الله يدل على صدق الثقة بالله بأنه الأقدر على منع وصول أي ضرر.
- كل مخلوق من جماد أو حيوان له نفس ويدب على الأرض أو يطير في السماء؛ كله تحت سلطان الله وقهره وتصرفه.
- الله -تعالى- أقام سنن الكون على الحق والعدل، والله -سبحانه- لا يظلم حتى أظلم الأقوام -كقوم عد-، ولا يفعل بهم إلا ما هو الحق والعدل والصواب.
- مهمة الأنبياء -والدعاة مِن بعدهم- محصورة على تبليغ الرسالات الهادية ومحاججة شبهات الكفار، فإن أعرض الناس عن دعوتهم؛ فلا يهم، لأنهم قد أدوا الغرض المطلوب منهم.