تفسير آيات من سورة إبراهيم (42 46)
وصف حال الظّالمين يوم الحساب
بعد أن لفت الله -تعالى- النّظر إلى فعل الكافرين، من تبديلهم لنعم الله، وفيما سبق من آيات، يستهلّ ربنا موضوع آياتنا، بما يناسب ما قبلها، وكذا نسق القرآن في التناسب، فيذكر عاقبة الظالمين، ذكراً يردع الظالمين، ويُطَمْئِن النبي -صلى الله عليه وسلم- والمؤمنين؛ إذ يقول الله -تعالى-: (وَلا تَحسَبَنَّ اللَّـهَ غافِلًا عَمّا يَعمَلُ الظّالِمونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فيهِ الأَبصارُ* مُهطِعينَ مُقنِعي رُءوسِهِم لا يَرتَدُّ إِلَيهِم طَرفُهُم وَأَفئِدَتُهُم هَواءٌ).
إذ ينهى الله -تعالى- سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- أن يظن بأن الله -تعالى- غافلٌ عن الظالمين، مهملٌ لهم؛ فلا يعاقبهم على ظلمهم، إذ أجلهم وأنظَرهم؛ إنّما كان حسابهم عظيماً مهولاً، ويُدرَك ذلك من حالهم؛ إذ ترتفع أبصارهم مفتوحةً لا تطرف؛ من هول ما يرون في يوم حسابهم، وهو يوم القيامة.
ثم يزيد الله -تعالى- في وصف حالهم ذلك اليوم، وصفاً يذهب بالألباب، إذ يبين حالَهم يوم يقومون من قبورهم، مسرعين في توجههم إلى المحشر ، رافعي رؤوسهم، فاتحي أعينهم لا يرمشون؛ من شِدّة ما هم فيه من أهوالٍ وحوادث، وقلوبهم فارغة لا تعي شيئا، من كثرة الخوف والدهشة.
وبعد تأكيد حقيقة علم الله -تعالى- بأعمال الظالمين، وحسابهم عليها؛ بنهي النبي -صلى الله عليه وسلم- عن ظنّ خلاف ذلك، يأتي أمر الله -تعالى- للنبي -صلى الله عليه وسلم-، أن يحذّر الناس، أي الكافرين، من يوم محدّد سيأتيهم لا محالة، وحينها سيكون عذابهم.
قال -تعالى-: (وَأَنذِرِ النّاسَ يَومَ يَأتيهِمُ العَذابُ)، وهذا اليوم قد يحمل ثلاثة وجوه، وهي:
- يوم قيامهم من قبورهم للحساب، وهو يوم القيامة.
- يوم موتهم، وما سيلاقون فيه ابتداءً من عذاب سكرات الموت .
- يوم العذاب العاجل في الدنيا، كما كان مع الأمم السابقة.
رد حيلة الظالمين الأخيرة
يحاول الظالمون النجاة، مما صاروا فيه، بكذبة جديدة، ومكر جديد، وكأنهم متفاجئون مما آلوا إليه، وكأنه لم يأتهم رسلٌ وآياتٌ تحذّرهم هذا اليوم، وتمنحهم الفرص بدل الفرصة، دون أن يذعنوا للحق، ويذروا كِبر نفوسهم، وإمعانهم في الضلال.
فيكون أول جواب الله -تعالى- لهم، من لسانهم توبيخاً: (أَوَلَم تَكونوا أَقسَمتُم مِن قَبلُ ما لَكُم مِن زَوالٍ)، أي: ألم تكونوا لشدة تكذيبكم بهذا اليوم، تقسمون أنكم لن يتبدل حالكم، ولن تبعثوا بعد موتكم؟ وأنكم أمعنتم في كفركم؛ فلم تغتنموا الفرصة التي ترجون الآن؟
إذ مُنحَت لكم يومَ سكنتم في ذات القرى التي نزل بها عذاب من كفر من الأمم التي قبلكم، (وَسَكَنتُم في مَساكِنِ الَّذينَ ظَلَموا أَنفُسَهُم وَتَبَيَّنَ لَكُم كَيفَ فَعَلنا بِهِم)، وكان بيِّناً لكم يومئذٍ حالكم هذا، من حال من قبلكم من الأمم، وما آلوا إليه من العذاب في الدنيا، فكيف ب العذاب يوم القيامة ؟
(وَضَرَبنا لَكُمُ الأَمثالَ)، بل إننا يا طالبي الفرصة الجديدة في الإمهال، قد أمهلناكم، يوم عدم اعتباركم بمصير مَن قبلكم من الأمم، فمنحناكم فرصا جديدة؛ بأن ضربنا لكم الأمثال، في كل ما تناظرون من آيات الله -تعالى- وفي كل ما تسمعون، مما جاءت به رسلكم من الأمثال، بل وبمصير الأمم السابقة، التي من هو ما حل بها، صارت مضرباً للمثل.
شدة مكر الظالمين في الدنيا
يقول -جل وعلا-: (وَقَد مَكَروا مَكرَهُم) ، ولعظيم ظلمهم وكفرهم، يوم سكنوا مساكن الظالمين مِن قبلهم، أنَّهم تأسَّوا بهم، بدل أن يعتبروا بهم، فمكروا مكرهم، أي مكر مَن سبقهم من الأمم في الكفر، وفي ردِّ المؤمنين عن إيمانهم، والله مُطَّلِع على ما يمكرون، مسجلٌ له، وهذا وقت حسابهم عليه.
(وَعِندَ اللَّـهِ مَكرُهُم) ، وقد تحمل معنى، أنَّ الله -تعالى- أعدَّ لهم من المكر في الآخرة، ما يفوق مكرهم في الدنيا، وهو العذاب الأليم؛ ذلك أن الجزاء من جنس العمل، (وَإِن كانَ مَكرُهُم لِتَزولَ مِنهُ الجِبالُ)، شبّه الله -تعالى- المؤمنين في شدة إيمانهم بالجبال، وأن مكر أولئك الظالمين الذين يرجون الفرصة الكاذبة، كاد أن يفتن المؤمنين بدينهم، لهولهِ وشدته.