تحليل قصيدة المواكب
جبران خليل جبران
شاعر، وكاتب، وفيلسوف ورسّام لبناني، ولُد عام 1883، وتُوفيّ عام 1931 بمرض السلّ، درس الفن في الولايات المُتحدة الأمريكيّة وبدأ مشواره الفني والأدبي هناك، اشتهر في العالم الغربي بعد كتاب النبيّ الذي ألّفه عام 1923.، حازت مؤلفات جبران الشعرية على المرتبة الثانية في المبيعات في الولايات المتحدة الأمريكية، وصُنِّف الشاعر الأفضل مبيعاً، بعد الكاتب شكسبير ولاوزي.
اتّسمت مؤلفاته بطابعين طابع الاستمتاع بالحياة، وطابع عقائدي ينتقد فيه أسلوب العقائد الدينيّة، ومن أهم مؤلّفاته باللغة العربية المواكب، والأجنحة المُتكسّرة، وعرائس المروج، والبدائع والطّرائف.
تحليل قصيدة المواكب
قصيدة المواكب قصيدة رومانسيّة طويلة، تفاعل فيها جبران مع وجدان الطبيعة وتفاصيلها مُعلّلاً ذلك أنّ الطبيعة سبب السّعادة المُطلقة، ونموذج للعالم المثالي البعيد عن الأشرار والزيف. يُعتبر جبران من أوئل الشعراء العرب الّذين تغنّوا في الطبيعة وأبدعوا في وصفها.
سَمّى جبران قصيدته باسم المواكب نسبةً إلى الجموع البشريّة الذين ضلّوا في اختيار الطريق الصحيح الذي يُسعدهم، وظنّوا أن مصدر سعادتهم وحريتهم في عالم الماديّات المُزيّف، والمدنية المتصنّعة وخضعوا لعادات وتقاليد زائفة، ودعا جبران في قصيدته إلى العودة إلى عالم الطّبيعة حيث الفطرة السّليمة. نظّم جبران القصيدة في وزنين مختلفيْن هما مجزور الرَّمَل، والبسيط.
قصيدة المواكب تتألّف من ستّ مقطوعات، تُشير المقطوعات الخمسة الأولى المُتشابهة في البناء والتركيب إلى وصف الواقع، ووصف الغاب حسب رأي الكاتب الشخصيّ، أمّا المقطوعة السّادسة فتختلف في بنائها وتركيبها، وعبرّ فيها جبران عن شوقه إلى طبيعة لبنان الخلابّة. فيما يأتي باختصار تحليل المقطوعات التي أشار لها جبران:
- مقطوعة الخير: يرى جبران أن النّاس مفطورون على الشّر، وأنّ الشّر مُتأصل في نفوسهم البشريّة حتى بعد الممات، وأنّهم لا يُقدّمون الخير إلا إذا أُجبروا على ذلك، فالخير ليس من جبلتهم.
- كما أشار جبران إلى أنّ الزّمن يُغيّر نفوس النّاس الضّعفاء ويتحكّم ويعبث بهم كالآلآت، وأكّد أنّه لا بُد من مجيء يوم يتحرّر فيه النذاس من تحكُّم هذا الزّمن العابث، ودعا جبران النّاس إلى التّواضع وعدم المُباهاة بالجاه والمجد والعلم، ووصف جبران النّاس بالقطيع الذي يمشي خلف راعيه دون تفكُّر أو تبصُّر في السّبيل وهذا هو سبب هلاكهم وضياعهم، كما دعا أيضاً إلى العودة إلى عالم الغاب؛ حيث الحريّة المُطلقة، والطّبيعة المُلهِمة دون وجود عوائق وتيّارات تؤثّر على البشر.
- مقطوعة الدين: رأى جبران أنّ البشر لا يتمسكون بالدّين إلّا لتحقيق رغبات شخصيّة كالظهور بلباس التّقوى ، أو الطّمع في الجنّة، أو الخوف من النار، أو لأسباب أخرى غير واضحة، ووضّح أنه لولا وجود الثّواب والعقاب لما عبدوا الله.
- وصف جبران الدين بالتّجارة، أي إذا التزم البشر بالعبادات ربحوا الجنّة، وإذا تركوها خسروا ودخلوا النّار، بينما تختفي هذه المعادلة الحصريّة برأيه (الدين والكفر) في قانون الغاب المختلف كُليّأً عن باقي القوانين، فاعتبر الغاب نموذجاً مثالياً وبيئيّاً للعيش فيه باحترام، حيث يتقبّل الجميع بغض النّظر عن الفئات الذين ينتمون إليها، كما يتقبل جميع الطيور والحيوانات على اختلاف أصواتهم وأشكالهم، وهذه إشارة استعان بها جبران لينتقد فيها الأديان والفئات الدينيّة التي لا تتقبل بعضها البعض، مُشيراً إلى أن الطّابع الدينيّ سينتهي بيوم من الأيام، ولكنّه بالوقت ذاته مؤمن بديانة النّصارى، وديانة الإسلام ، واعتبر جبران أن صوت النّاي الذي يصدح بالغابة هو صوت الدّين الحقيقي والصلاة والخلود.
- مقطوعة العدل: سخّر جبران وبالغ في الوصف لمنظومة العدل التي أسسّها الإنسان بناءً على قوة الأفراد، وأشار إلى أنّ العدل الذي يُقيمه الإنسان من وجهة نظره هو عدلٌ ظالم في الوقت ذاته، فالضعيف بين قومه إذا ارتكب خطأَ صغيراً يُعاقب ويُعتبر جُرماً، بينما القوي عندما يرتكب خطأً يُصفق له ويُعتبر بطلاً، وبالغ جبران في وصفه حين قال الجنّ والأموات تبكي من عدل الإنسان الزائف الذي وصفه بالثلج الزّائل بعد سطوع أشعة الشمس ، ثم عاد إلى وصف الغاب مُشيراً إلى أنه لا يوجد عقاب وثواب في الغابة، ولا تدخّل في شؤون الآخرين، أو اعتراض على أفعالهم مُعللّين ذلك بأنها مُخالفة لتعاليم الدّين، ثم عاد جبران وكرّر أن صوت الناي وترانيمه هو صوت الخلود الحقيقي.
- مقطوعة العلم: أشار جبران إلى فضل العلم على الإنسان ووضّح أنّ بداية طريق العلم معروفة وواضحة لدى الجميع، أمّا نهايته فتكون بانتهاء عمر وقدر الإنسان، ودعا الإنسان إلى التعلّم والعيش بطموح.
- كما ساوى جبران الإنسان المتعلم المنفرد بعلمه بمنزلة النبي، فالإنسان المتعلّم علمه يفصله عن الناس الذين يعتبرونه غريباً بينهم، لأنهم لا يزالون يعيشون في الماضي، ووصف جبران الإنسان المُتعلم بالشدّة والقوة بالرغم ما يُظهره من لُطف ولين في التعامل، ثم عاد جبران يُقارن ذلك مع قانون الغاب الذي تختفي فيه ثُنائية العلم والجهل، وشبّه علوم الإنسان بالضّباب الذي يزول بسطوع شمس الحقيقة، وعاد وكرّر أن صوت النّاي والغناء هو أفضل العلوم الخالدة.
- مقطوعة السعادة: اعتقد جبران أنّ السعادة وهمٌ لا يتحقّق، فعندما يُحقق الإنسان هدفه يمل ثم يُعيد البحث عن هدف آخر، وشبّه ذلك بالنّهر الجاري نحو السهل، ما أن يصل النهر السهل يُصبح النهر كئيباً بطيئاً يبحث عن مجرى آخر.
- كما اعتقد جبران أنّ سعادة النّاس الحقيقية هي فقط في الطّموح والأمل في تحقيق الشيء المرجو، ولكن بعد الحصول على هذا المُراد تزول هذه السعادة الوهميّة، ورأى جبران أنّ الإنسان السعيد هو الذي ينشغل في تحقيق أهدافه، ثم عاد إلى قانون الغاب حيث تختفي معادلة الطلب والملل لأنّه يعتبر أن الغاب لديه كل شيء، وهو الأمل النهائيّ أيضاً لكل شيء، وعاد وأكدّ أن الغناء هو سر السعادة الحقيقية الخالدة.
- مقطوعة وصف الغابة والطبيعة: اختلفت المقطوعة السادسة عن باقي القصيدة من حيث البُنية التركيبيّة اللفظيّة، وأيضاً وزن القافية، حيث وصف جبران طبيعة لبنان الخلاّبة وتخيّل نفسه بين جبالها وسهولها، ودعا الناس لترك حياة التمدّن الزائفة والتوجه لحياة الغاب الطبيعيّة، حيث البقاء بين الماء، ورحيق الأزهار وأشعة الشمس الدافئة، والثمار اليانعة، والاستمتاع بالطبيعة الساحرّة ، ثم أقرّ جبران بضعف الإنسان وعجزه عن القيام بذلك لأن الحياة تفرض عليه تعقيدات صارمة بتحقيق مصالحه.
قصيدة المواكب
فيما يأتي الأبيات الرئيسة من المقطوعات السّتة:
- المقطوعة الأولى:
الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا
والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
وأكثر الناس آلاتٌ تحركها
أصابع الدهر يوماً ثم تنكسرُ
فلا تقولنَّ هذا عالم علمٌ
ولا تقولنَّ ذاك السيد الوَقُرُ
فأفضل الناس قطعانٌ يسير بها
صوت الرعاة ومن لم يمشِ يندثر
- المقطوعة الثانية:
ليس في الغابات راعٍ
لا ولا فيها القطيعْ
فالشتا يمشي ولكن
لا يُجاريهِ الربيعْ
خُلقَ الناس عبيداً
للذي يأْبى الخضوعْ
فإذا ما هبَّ يوماً
سائراً سار الجميعْ
أعطني النايَ وغنِّ
فالغنا يرعى العقولْ
وأنينُ الناي أبقى
من مجيدٍ وذليلْ
ليس في الغابات دينٌ
لا ولا الكفر القبيحْ
فإذا البلبل غنى
لم يقلْ هذا الصحيحْ
إنَّ دين الناس يأْتي
مثل ظلٍّ ويروحْ
لم يقم في الأرض دينٌ
بعد طه والمسيح
أعطني الناي وغنِّ
فالغنا خيرُ الصلاة
وأنينُ الناي يبقى
بعد أن تفنى الحياةْ
والعدلُ في الأرضِ يُبكي الجنَّ لو سمعوا
بهِ ويستضحكُ الأموات لو نظروا
فالسجنُ والموتُ للجانين إن صغروا
والمجدُ والفخرُ والإثراءُ إن كبروا
فسارقُ الزهر مذمومٌ ومحتقرٌ
وسارق الحقل يُدعى الباسلُ الخطر
وقاتلُ الجسمِ مقتولٌ بفعلتهِ
وقاتلُ الروحِ لا تدري بهِ البشرُ
ليس في الغابات عدلٌ
لا ولا فيها العقابْ
فإذا الصفصاف ألقى
ظله فوق الترابْ
لا يقول السروُ هذي
بدعةٌ ضد الكتابْ
إن عدلَ الناسِ ثلجُ
إنْ رأتهُ الشمس ذابْ
أعطني الناي وغنِ
فالغنا عدلُ القلوبْ
وأنين الناي يبقى
بعد أن تفنى الذنوبْ
- المقطوعة الثالثة:
والعلمُ في الناسِ سبلٌ بأنَ أوَّلها
أما أواخرها فالدهرُ والقدرُ
وأفضلُ العلم حلمٌ إن ظفرت بهِ
وسرتَ ما بين أبناء الكرى سخروا
فان رأيتَ أخا الأحلام منفرداً
عن قومهِ وهو منبوذٌ ومحتقرُ
فهو النبيُّ وبُرد الغد يحجبهُ
عن أُمةٍ برداءِ الأمس تأتزرُ
وهو الغريبُ عن الدنيا وساكنها
وهو المهاجرُ لامَ الناس أو عذروا
وهو الشديد وإن أبدى ملاينةً
وهو البعيدُ تدانى الناس أم هجروا
ليس في الغابات علمٌ
لا ولا فيها الجهولْ
فإذا الأغصانُ مالتْ
لم تقلْ هذا الجليلْ
إنّ علمَ الناس طرَّا
كضبابٍ في الحقولْ
فإذا الشمس أطلت
من ورا الأفاق يزولْ
أعطني النايَ وغنِّ
فالغنا خير العلومْ
وأنينُ الناي يبقى
بعد أن تطفي النجومْ
- المقطوعة الرابعة:
وما السعادة في الدنيا سوى شبحٍ
يُرجى فإن صارَ جسماً ملهُ البشرُ
كالنهر يركض نحو السهل مكتدحاً
حتى إذا جاءَهُ يبطي ويعتكرُ
لم يسعد الناسُ إلا في تشوُّقهمْ
إلى المنيع فإن صاروا بهِ فتروا
فإن لقيتَ سعيداً وهو منصرفٌ
عن المنيع فقل في خُلقهِ العبرُ
- المقطوعة الخامسة:
ليس في الغاب رجاءٌ
لا ولا فيه المللْ
كيف يرجو الغاب جزءاً
وعَلىَ الكل حصلْ
وبما السعيُ بغابٍ
أَملاً وهو الأملْ
إنّما العيش رجاءً
إِحدى هاتيك العللْ
أعطني النايَ وغنِّ
فالغنا نارٌ ونورْ
وأنين الناي شوقٌ
لا يدانيهِ الفتور
- المقطوعة السادسة:
أعطني الناي وغنِّ
وانس ما قلتُ وقلتا
إنّما النطقُ هباءٌ
فأفدني ما فعلنا
هل تخذتَ الغاب مثلي
منزلاً دون القصورْ
فتتبعتَ السواقي
وتسلقتَ الصخورْ
هل تحممتَ بعطرٍ
وتنشقت بنورْ
وشربت الفجر خمراً
في كؤُوس من أثير
هل جلست العصر مثلي
بين جفنات العنبْ
والعناقيد تدلتْ
كثُريّات الذهبْ.