تاريخ غزوة الخندق
تاريخ غزوة الخندق
وقعت غزوة الخندق في شهر شوال من العام الخامس للهجرة، وهذا ما ذهب إليه جمهور العلماء، ومنهم: ابن إسحاق، وعروة بن الزبير، والبيهقي، وقتادة، وابن القيم، والذهبي -رحمهم الله جميعاً-، واستمرت هذه الغزوة المباركة في شوال وذي القعدة وبعض ذي الحجة، وقد خرج مشركو قريش وانضمّ لهم مقاتلين من غطفان وبني مرة وغيرهم، وعسكروا على مشارف المدينة المنورة.
وسُمّيت هذه الغزوة أيضاً بغزوة الأحزاب، فأما عن سبب تسميتها بغزوة الخندق فذلك نسبةً للخندق الذي أشار الصحابي الجليل سلمان الفارسي بحفره، فقد كان معروفاً في بلاد الفرس، وكانت حيلةً في الحرب لا يعرفها العرب، وقد أعجبت النبي هذه الحيلة فأمر النبي بتنفيذها، أما إطلاق تسمية الأحزاب على هذه الواقعة فقد ذُكرت في القرآن الكريم، حيث أورد الله -سبحانه وتعالى- سورةً أسماها بالأحزاب ، وذلك لأنه اجتمع المشركون والكثير من الأعداء من قريشٍ وغطفان واليهود وغيرهم في صعيدٍ واحدٍ، وتحزّبوا لعلهم يقضون على المسلمين بضربةٍ واحدةٍ، وقد ذكر الله -تعالى- في سورة الأحزاب صعوبة الأحداث والرعب المصاحب لها في هذه الغزوة، فقال -جلّ وعلا-: (إِذْ جَاءُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا).
سبب وقوع غزوة الخندق
اجتمع المشركون من قريش، وغطفان، وبني مُرة، وبني فزارة، وبني أسد، وبني أشجع، وغيرهم لحرب المسلمين، وكان الباعث الحقيقي لهذه الحرب والمحرّك الأساسي اليهود ؛ فقد اجتمع كبار اليهود وعلى رأسهم حُيَيُّ بْنُ أَخْطَبَ وَكَعْبُ بْنُ الْأَشْرَفِ وغيرهم بما يحملونه من الحقد والكراهية للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللمسلمين، وتوجّهوا نحو قريشٍ يحرّضونهم ويخبرونهم أن دينهم أفضل وأهدى من دين محمد -عليه الصلاة والسلام-، فأنزل الله -تعالى- قوله: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَـٰؤُلَاءِ أَهْدَىٰ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا)، وقد طافوا بالقبائل يقنعونهم بالمشاركة، واستجابت لهم قبائل كثيرة، فاجتمع جمعٌ كثير من المشركين وتوجّهوا نحو مدينة رسول الله.
ملخّص عن أحداث غزوة الخندق
فوجئ المشركون من الحيلة الغريبة التي استخدمها المسلمون، فقد كان الخندق فكرةً مُدهشةً، ولم يكن الرسول -عليه الصلاة والسلام- قد أعدَّ مع الصحابة خندقاً فحسب، ولكنّه جمع الصحابة ونظّم صفوفهم ونقاط حراستهم، وجعل كتائب للقتال حتى لا يُسمح باختراق الخندق مهما حدث، وحين نذكر الخندق فهناك الكثير من العِبر والمواقف التي تُذكر بجانبه، فقد تحمّل الرسول والصحابة المشقّة في حفره حتى بلغ الجوع مبلغه، وبرغم التعب والمشقّة والخوف الذي تملّك المسلمين إلا أن الرسول -عليه الصلاة والسلام- ضلّ باعثاً للأمل والثقة بالله -تعالى- في نفوسهم، فقد عُرِضت للمسلمين صخرةً ضخمةً لم تتحطّم، فشكوا إلى الرسول ذلك، فلما رآها أخذ المِعولَ وقال: (بسمِ اللهِ، فضرب ضربةً فكسر ثُلُثَها، وقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ الشامِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصورَها الحُمْرَ الساعةَ، ثم ضرب الثانيةَ فقطع الثلُثَ الآخَرَ فقال: اللهُ أكبرُ، أُعْطِيتُ مفاتيحَ فارسٍ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ قصرَ المدائنِ أبيضَ، ثم ضرب الثالثةَ وقال: بسمِ اللهِ، فقطع بَقِيَّةَ الحَجَرِ فقال: اللهُ أكبرُ أُعْطِيتُ مَفاتيحَ اليَمَنِ، واللهِ إني لَأُبْصِرُ أبوابَ صنعاءَ من مكاني هذا الساعةَ).
بدأ المسلمون برمي النِّبال لمنع المشركين من اختراق الخندق، وبرغم ذلك استطاع عددٌ من المشركين التسلّل، ودارت بعض المبارزات بينهم وبين الصحابة حتى أن الصحابي الجليل علي بن أبي طالب بارَزَ عمرو بن عبد ودٍّ وقتله، وهرب بقية المشركين المتسلّلين، ومن شدّة الصراع الدائر حدث أمرٌ نادرٌ، فقد ضاعت صلاة العصر على المسلمين لاشتغالهم بالقتال ومدافعة المشركين عن المدينة، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (مَلَأَ اللَّهُ عليهم بُيُوتَهُمْ وقُبُورَهُمْ نَارًا، كما شَغَلُونَا عن صَلَاةِ الوُسْطَى حتَّى غَابَتِ الشَّمْسُ).
ولم يتوقّف جهد اليهود على التحريض فحسب، بل تعدّاها إلى الخيانة، فلما بلغ النبي -صلى الله عليه وسلم- خيانتهم أراد أن يتأكّد من ذلك، فأرسل عدداً من الصحابة وأوصاهم إذا علموا بخيانتهم أن يرسلوا له إشارةً يفهمها حتى لا يدرك المسلمون ذلك في ظلّ الظروف الصعبة فيسري الخوف بينهم، فخرج الصحابة حتى وصلوا إليهم وتأكّدوا من غدرهم ونيّتهم في مساعدة المشركين للدخول إلى المدينة ونقض عهدهم مع المسلمين، فعادوا للرسول وقالوا: "عضل والقارّة"، وهي قصّةٌ دالّةٌ على الخيانة، فردّ الرسول بأنها بشارة خير، وكان من دعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- في تلك الآيام الثقيلة: (اللَّهُمَّ مُنْزِلَ الكِتَابِ، سَرِيعَ الحِسَابِ، اللَّهُمَّ اهْزِمِ الأحْزَابَ، اللَّهُمَّ اهْزِمْهُمْ وزَلْزِلْهُمْ).
نتيجة غزوة الخندق
حدث أمرٌ مفاجئٌ في نهايات هذه الغزوة؛ حيث أسلم أحد الجنود وهو الصحابي الجليل نعيم بن مسعود -رضي الله عنه-، وجاء للنبي يخبره بذلك، وقال له إن قومه لا يعلمون بإسلامه، وطلب منه أن يأمره بما شاء، فقال له النبي -صلى الله عليه وسلم-: (الحربَ خُدعةٌ)، فذهب الصحابي نعيم ودبَّ الخلاف والفتنة بين اليهود والمشركين، ففرّق جموعهم، وقد أرسل الله جنده؛ إذ أرسل الملائكة تثبّت المؤمنين، وبعث الريح فدمّرت خيام الأعداء، وقلبت قدورهم، وألقى في قلوبهم الرعب، فحسموا قرراهم بالعودة خائبين مخذولين مهزومين، وقد نصر الله عبده، وأعزّ جنده -سبحانه-، وهزم الأحزاب وحده، وأرسل النبي الصحابي الجليل حذيفة بن اليمان يستطلع أخبارهم، فعاد ليخبر النبي بحالهم وأنهم قد استعدّوا للرحيل والانسحاب، وأن الله ردّهم.