بناء القصيدة وسماته في العصر العباسي الأول
خصوصية بناء القصيدة في العصر العباسي الأول
يعد العصر العباسي عصر تطور الشعر العربي ، فقد تم في هذا العصر إعادة هيكلة بنية القصيدة العربية، فقد اتجه العرب نحو التجديد والإبداع في الشعر بعد أن تمدنوا في العواصم والحواضر، وابتعدوا عن الصحراء وبيئتها الجلفة التي ولّدت القصيدة العربية القديمة، وأكسبتها شكلها وبنيتها التي عدّها بعض الشعراء والعلماء والنقاد أصولا لا يجوز الخروج عنها.
وقد شمل التجديد بناء القصيدة العربية القديمة، فقد كانت تنعدم فيها الوحدة الموضوعية، ونعني بذلك أنّها تتكون من عدة موضوعات يتنقل فيها الشاعر حتى يلج موضوعه الرئيسي؛ من مدح أو فخر أو غزل أو هجاء ، وقد استثني من ذلك الرثاء، لأنه موضوع حساس ويتميز بكثافة العاطفة، فيجوز للشعر الدخول في الموضوع مباشرةً والاستقرار عليه لما لهذا النوع من خصوصية.
تميزت القصيدة العصر العباسي في شكلها ومضمونها؛ إذ اتسمت بالوحدة الموضوعية والمباشرة في الدخول للموضوع المراد الحديث عنه، وذلك إضافة إلى تعدد الموضوعات التي تناولتها القصيدة في تلك الفترة، والطريقة التي عبر الشعراء بها عن عواطفهم وقضاياهم.
التجديد في مطلع القصيدة العربية في العصر العباسي الأول
يعد التجديد في مطلع القصيدة العربية من أهم سمات بنية القصيدة العربية في العصر العباسي، فقد ثار الشعراء العباسيون على المطلع الطللي، ويرجع ذلك لاختلاف البيئة وتغيرها، فالطلل يختص بالصحراء، ولم يعد العرب يعيشون فيها، ويعانون طبيعتها القاسية، فقد صاروا قومًا يعيشون في مدن لا رحيل فيها ولا ترك للديار، فالطلل ينتج عن الرحيل وترك آثار في المكان الذي تم العيش فيه.
وقد كان أبونواس و بشار بن برد ومسلم بن الوليد من أبرز من ثاروا على المقدمة الطللية، بل على بنية القصيدة العربية القديمة، ويرجع ذلك إلى نزعتهم الشعوبية، والتي نقصد بها كراهية الفرس للعرب، ومحاولة إظهار فضلهم وتفوقهم، فقد كان هؤلاء الشعراء من أصول فارسية، فهاجموا العرب، وسخروا من شعرهم وأسلوبهم لاسيما افتتاح القصيدة بمطلع طللي، ومن ذلك قول أبي نواس :
عاجَ الشَقِيُّ عَلى دارٍ يُسائِلُها
:::وَعُدتُ أَسأَلُ عَن خَمّارَةِ البَلَدِ
لا يُرقِئُ اللَهُ عَينَي مَن بَكى حَجَراً
:::وَلا شَفى وَجدَ مَن يَصبو إِلى وَتَدِ
قالوا ذَكَرتَ دِيارَ الحَيِّ مِن أَسَدٍ
:::لا دَرَّ دَرُّكَ قُل لي مَن بَنو أَسَدِ
وَمَن تَميمٌ وَمَن قَيسٌ وَإِخوَتُهُم
:::لَيسَ الأَعاريبُ عِندَ اللَهِ مِن أَحَدِ
ففي هذه الأبيات نجد تغني الشاعر وتفضيله للمقدمة الخمرية والحديث عنها بدلًا من الوقوف على الأطلال ، ونراه أيضًا يسخر من الشاعر الذي يبكي على الخراب، وينفي أن يكون للعرب قدر أو مكانة عند الله عز وجل، فقد ظهر تفضيل الخمرة بسبب انتشار محلات بيعها ودور اللهو، فصارت قريبةً متناولة في العصر العباسي الذي شهد انفتاحًا وخروجًا عن تعاليم الدين.
الوحدة الموضوعية في بنية القصيدة العباسية
تعد الوحدة الموضوعية من أهم أشكال التجديد في بناء القصيدة العربية العباسية، فقد كانت القصيدة القديمة تتنوع فيها الموضوعات، فكان الشاعر يقف على الأطلال، ويبكي على ذكرى المحبوبة، ثم يذكر أيام علاقتهم وحبهم، ثم يخاطب الرفيق ويطلبه مشاركته حزنه والبكاء على هذه الآثار، ومن ثم ينتقل لوصف ناقته والتغني بها، وبقوتها، ويصف الرحلة ومصاعبها، حتى يصل لموضوع قصيدته.
أما في العصر العباسي فقد تغيّر الحال، فلم يعد هناك حاجة لتعدد الموضوعات، فمال الشعراء للاختصار وطرق باب الموضوع الأساسي، ويرجع ذلك إلى تغير المزاج الثقافي عندهم، فبيئتهم ليست كالبيئة القديمة، فهم لا يعيشون في صحراء، ولا يقتنون النوق، ولا يرحلون عن الديار، ولا يرون الطلل ولا الآثار.
بالإضافة إلى رغبة الشعراء في الاختصار والتعبير عن النفس وكشف العواطف بصورة أسرع، ثم إنّ النزاعات الفكرية والعقائدية التي ظهرت في هذا العصر أوجبت ضرورة الدخول في الموضوع دون إطالة، فالشاعر إذا أراد أن يعبر أو أن يدافع عن موقفه في مسألة ما لا بد له من الدخول في الموضوع وعدم التأخير، ومن ذلك قول بشار بن برد:
إِبليسُ خَيرٌ مِن أَبيكُم آدَمٍ
:::فَتَنَبَّهوا يا مَعشَرَ الفُجّارِ
إِبليسُ مِن نارٍ وَآدَمُ طينَةٌ
:::وَالأَرضُ لا تَسمو سُمُوَّ النارِ
ففي هذه الأبيات يُظهر الشاعر مظاهر نزعته الشعوبية، ويدافع عنها، فهو من أصول فارسية وينتصر للفرس وعقيدتهم، فمن المعلوم أنّ الفرس كانوا عبدةً للنار، وهنا نجد أنه يفضل النار وعبادتها، حتى أنّه ينتصر لإبليس ويفضله على سيدنا آدم عليه السلام، والملاحظ أنّ الشاعر طرق باب الموضوع مباشرةً دون مقدمات أو تطويل ليدافع عن معتقده.