بحث عن تفسير سورة النحل
تفسير الآيات المتعلِّقة بنعم الله على الإنسان
النِّعم الواردة في الآيات من 5 - 16
سورة النَّحل تحتوي على العديد من الآيات الكونيَّة التي تتضمَّن نعم الله -تعالى-، والتي تعود بالنَّفع على الإنسان وسائر المخلوقات، وتُظهر الآيات تفرُّد الله -تعالى- ووحدانيته وقدرته على إحداث هذه النعم، والإبداع في خلقه للمخلوقات، وإيجاده للأحوال العجيبة، وهذا دليلٌ على عظمته، وإثباتاً لوجوده، ولألوهيَّته، وربوبيَّته، ووحدانيَّته، فهو المُستَحقُّ الوحيد بالعبوديَّة. وبيان بعضٍ من نعم الله -تعالى- التي وردت في الآيات من قوله -تعالى-: (وَالأَنعامَ خَلَقَها لَكُم فيها دِفءٌ وَمَنافِعُ وَمِنها تَأكُلونَ)، وحتى قوله -تعالى-: (وَأَلقى فِي الأَرضِ رَواسِيَ أَن تَميدَ بِكُم وَأَنهارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُم تَهتَدونَ*وَعَلاماتٍ وَبِالنَّجمِ هُم يَهتَدونَ) . فيما يأتي:
- الأنعام: وهي الإبل، والبقر، والغنم، وفيها من الفوائد الكثير؛ إذ يستطيع الإنسان الاستفادة من صوفها وجلودها للاستدفاء، ويستفيد من ألبانها ومشتقاته ولحومها للأكل، وفيها جمالٌ يُريح كلَّ من نظر إليها، وأضاف الله -تعالى- أصناف الخيل، والبغال، والحمير مع الأنعام؛ إذ يُستفاد منها للرُّكوب عليها واستخدامها في حراثة الأرض أو حمل الأمتعة، وهي تُدخل السُّرور لقلب مُقتنيها، وقد ورد عن الفقهاء أنَّ سبب تخصيص هذه الأصناف الثَّلاثة: الخيل، والبغال، والحمير؛ لأنَّه لا يجوز أكل لحومها كباقي الأنعام الأخرى، رغم عدم ورود نصٍ صريحٍ بالتَّحريم لا في القرآن الكريم ولا السُّنَّة النبويَّة، وقد تعددت الأقوال في ذلك بين ناهٍ ومُجيز.
- الماء: أوجد الله -تعالى- الماء يُنزله من السَّماء أو يُخرجه من الأرض؛ ليشرب منه النَّاس والكائنات الحيَّة جميعها، ومن الماء يَنبت الشَّجر الذي يُغذِّي المواشي التي يُستفاد منها في مآرب أخرى.
- النُّجوم: خلق الله -تعالى- النُّجوم التي تُفيد في تحديد الجهات المختلفة، وتُساعد في معرفة الوجهات والطُّرق في اللَّيل.
- الجبال: أوجد الله -تعالى- أيضاً الجبال لتُحدث توازناً في هذا الكون، فتُثبِّت الأرض حتى لا تيمل وتضطرب.
- النَّبات والزَّرع: خلق الله -تعالى- الثمار النَّافعة الصَّالحة لينتفع النَّاس بها بأكلها والاستمتاع بمذاقها، وهي أيضاً غذاءٌ لجميع الكئنات الحيَّة، ومن الثَّمرة نفسها تنبت الشَّجرة.
- البحار والأنهار: أوجد الله -تعالى- ويسَّر لعباده البحار والأنهار التي يستطعون استخراج الطَّعام والماء والحُلي منها، وفيها تجري السُّفن التي تنفع النَّاس بأمور النقل والتِّجارة وتوفير الحاجيات وغيرها.
- اللّيل والنَّهار: الله -تعالى- خالق الشَّمس والقمر وهو المُدبِّر والمُتحكِّم فيهم، فقد سخَّر لعباده النَّهار للسعيِّ وجلب الرِّزق وقضاء الحاجات، وسخَّر الليل للرَّاحة والسَّكينة.
- ما لا تعلمون: يُنعم الله -تعالى- على عباده ما لا يتصوَّرون من المخلوقات التي تكون في الأرض أو البحر أو ما لم يُخلق بعد، وكلُّها في سبيل تيسير حياة النَّاس والانتفاع بها، وقيل يُقصد كذلك ما لا يخطر على بالهم؛ كخلق النَّار والجنَّة.
- الهداية: بيِّن الله -تعالى- لعباده طريق الحقِّ والهداية ، وطريق الضلالة والهلاك، وأرشدهم للصراط المستقيم.
النِّعم الواردة في الآيات من 65 - 69
تضمَّنت السُّورة مواضع أخرى تتحدَّث عن نعم الله -تعالى- ومشاهد عظمته ومظاهر قدرته وإبداع خلقه من قوله -تعالى-: (وَاللَّـهُ أَنزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحيا بِهِ الأَرضَ بَعدَ مَوتِها إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَسمَعونَ)، إلى قوله -تعالى-: (ثُمَّ كُلي مِن كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسلُكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخرُجُ مِن بُطونِها شَرابٌ مُختَلِفٌ أَلوانُهُ فيهِ شِفاءٌ لِلنّاسِ إِنَّ في ذلِكَ لَآيَةً لِقَومٍ يَتَفَكَّرونَ)، ومن هذه النِّعم والمشاهد ما يأتي:
- إحياء الأرض بعد موتها بإرسال السَّحاب المُحمَّل بالأمطار؛ فيُنبت من الأرض الجرداء القاحلة أنواع النَّبات وأشكال الثِّمار والزَّرع المختلف.
- إخراج اللَّبن السائغ للشَّاربين من بطون الأنعام؛ كالإبل، والبقر، والضأن، والمعز، وذلك دليل على بديع صنع الخالق في إخراجه اللّبن خالياً من الشَّوائب؛ كالدَّم وبقايا الطَّعام.
- استخراج أصنافاً من الأغذية والشَّراب المباح المفيد من أشجار العنب والنَّخيل؛ كالتَّمر والدِّبس والزَّبيب وغيرها.
- إلهام الله -تعالى- للنَّحل باتخاذها مساكن وبيوت لنفسها في الأشجار أو الجبال أو العريش، ومن ثمَّ ابتعادها عن مسكنها لتأكل من مختلف الثِّمار وتعود لتُنتج العسل مختلف الألوان؛ كالأبيض، والأصفر، والأحمر، والأسود، وغيره، والذي فيه شفاءٌ ونفع للنَّاس، وقد ورد بالسُّنَّة أنَّ العسل شفاءٌ، حيث روى أبو سعيد الخدري -رضي الله عنه-: (أنَّ رَجُلًا أتَى النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فقالَ: أخِي يَشْتَكِي بَطْنَهُ، فقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، ثُمَّ أتَى الثَّانِيَةَ، فقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، ثُمَّ أتاهُ الثَّالِثَةَ، فقالَ: اسْقِهِ عَسَلًا، ثُمَّ أتاهُ فقالَ: قدْ فَعَلْتُ؟ فقالَ: صَدَقَ اللَّهُ، وكَذَبَ بَطْنُ أخِيكَ، اسْقِهِ عَسَلًا، فَسَقاهُ فَبَرَأَ).
النِّعم الواردة في الآيات من 70 - 72
بيَّنت الآيات في قوله -تعالى-: (وَاللَّـهُ خَلَقَكُم ثُمَّ يَتَوَفّاكُم وَمِنكُم مَن يُرَدُّ إِلى أَرذَلِ العُمُرِ لِكَي لا يَعلَمَ بَعدَ عِلمٍ شَيئًا إِنَّ اللَّـهَ عَليمٌ قَديرٌ* وَاللَّـهُ فَضَّلَ بَعضَكُم عَلى بَعضٍ فِي الرِّزقِ فَمَا الَّذينَ فُضِّلوا بِرادّي رِزقِهِم عَلى ما مَلَكَت أَيمانُهُم فَهُم فيهِ سَواءٌ أَفَبِنِعمَةِ اللَّـهِ يَجحَدونَ* وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُم مِن أَنفُسِكُم أَزواجًا وَجَعَلَ لَكُم مِن أَزواجِكُم بَنينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِنَ الطَّيِّباتِ أَفَبِالباطِلِ يُؤمِنونَ وَبِنِعمَتِ اللَّـهِ هُم يَكفُرونَ)؛ مظاهر خلق الله -تعالى- وفضله على الإنسان وتقلُّب حاله وتغيُّره، وفي الآيات استنكارٌ على كلِّ من يُشرك مع الله -تعالى- إلهاً آخر رغم تفرُّده -تعالى- بالخلق وحده، وتفصيل هذه الأفضال فيما يأتي:
- تقدير الله -تعالى- لأعمار العباد، فمنهم من يتوفَّاهم الله صغاراً أو كباراً أو شيوخاً، ومنهم من يردُّهم ويُعيدهم لأرذل العمر، وهو عندما يهرم الإنسان ويصيبه الخرف فيغدوا بمنزلة الصَّبيِّ الصَّغير كالطفل لا يعلم شيئاً رغم علمه السَّابق في مراحل حياته، وقد كان النبيُّ -عليه السلام- يتعوَّذ من أرذل العمر، إذ روى أنس بن مالك -رضي الله عنه-: (أنَّ رَسولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كانَ يَدْعُو: أعُوذُ بكَ مِنَ البُخْلِ والكَسَلِ، وأَرْذَلِ العُمُرِ، وعَذَابِ القَبْرِ، وفِتْنَةِ الدَّجَّالِ، وفِتْنَةِ المَحْيَا والمَمَاتِ).
- خلق الله -تعالى- النَّاس مُتفاوتين ومختلفين، فخلق منهم الغنيَّ والفقير والمتوسِّط، فمنهم من ضاقت به الحال، ومنهم من امتلك سعةً من الرِّزق ، وفي هذه الآيآت انتقادٌ وإنكارٌ لجحود المشركين وكفرهم؛ لإشراكهم وإعطاء الحقِّ لأنفسهم بمُساواة أحدٍ من خلق الله مع الله في العبادة؛ كالأصنام، رغم رفضهم مشاركة رزقهم الذي رزقهم إياه الله -تعالى- مع أحد عبيدهم أو خدمهم حتى لا يتساووا معهم.
- خلق الله -تعالى- الإنسان من ذكرٍ وأنثى، وجعل النِّساء ليُستأنس بهنَّ ويُتّخذن كزوجاتٍ ويُرزقن بالأطفال ومن ثُمَّ بالأحفاد، ورزق الله -تعالى- عباده من الطيِّبات الكثير.
النِّعم الواردة في الآيات من 78 - 81
تُشير الآيات من قوله -تعالى-: (وَاللَّـهُ أَخرَجَكُم مِن بُطونِ أُمَّهاتِكُم لا تَعلَمونَ شَيئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمعَ وَالأَبصارَ وَالأَفئِدَةَ لَعَلَّكُم تَشكُرونَ) حتى قوله -تعالى-: (وَاللَّـهُ جَعَلَ لَكُم مِمّا خَلَقَ ظِلالًا وَجَعَلَ لَكُم مِنَ الجِبالِ أَكنانًا وَجَعَلَ لَكُم سَرابيلَ تَقيكُمُ الحَرَّ وَسَرابيلَ تَقيكُم بَأسَكُم كَذلِكَ يُتِمُّ نِعمَتَهُ عَلَيكُم لَعَلَّكُم تُسلِمونَ) على حقيقةٍ لا يُمكن إنكارها، وهي الخلق والإبداع، وقد بيَّن الله -تعالى- الأدلَّة الكثيرة على ذلك، فحثَّ عباده على التفكُّر بفضائله وحمده وشكره على نعمه التي تُحصى. وبيان هذه النِّعم فيما يأتي:
- يُخرج الله -تعالى- عباده لهذه الدنيا جاهلين لا يعلمون شيئاً، لذا فقد رزقهم ودبّر لهم السَّمع، والبصر، والعقل؛ ليتعلَّموا، ويتفكَّروا، ويُحصِّلوا العلم وينشروه، فيُدركوا مظاهر خلق الله -تعالى- وفضله ويكونوا من الشَّاكرين.
- سخَّر الله -تعالى- للطُّيور أجنحةً وأبدع في خلقها؛ لتستطيع الطيران في السَّماء العالية في الهواء دون أن تسقط بقدرة الله -تعالى- وحده.
- ألهم الله -تعالى- عباده إلى السَّكَن، فيسَّر لهم البيوت ويسَّر جلود الأنعام لتُستخدم في صنع الخيام عند ترحالهم، وجعل من صوفها ووبرها ما يُستفاد منه في أثاث البيت أو في التجارة لجلب المال.
- ألهم الله -تعالى- عباده إلى ما يستظلُّون ويحتمون به من حرِّ الشَّمس؛ كالشَّجر والجبال، وألهمهم إلى ما يحميهم من تقلُّبات الجو البارد والحار؛ فجعل لهم الملبس الذي يُصنع من الصُّوف والكتَّان والقطن وغيره، ويسَّر الدُّروع الثَّقيلة التي تحمي من هجمات الأعداء وطعنات السُّيوف.
تفسير الآيات المتعلقة بعاقبة المكذِّبين
سوء عاقبة المكذّبين في الآيات من 20 - 29
تتحدَّث الآيات من قوله -تعالى-: (وَالَّذينَ يَدعونَ مِن دونِ اللَّـهِ لا يَخلُقونَ شَيئًا وَهُم يُخلَقونَ)، حتى قوله -تعالى-: (فَادخُلوا أَبوابَ جَهَنَّمَ خالِدينَ فيها فَلَبِئسَ مَثوَى المُتَكَبِّرينَ) عن عاقبة المكذِّبين الذين استكبروا وأصرُّوا على إنكار آيات الله -تعالى- وإنكار النُّبوَّة وعبادتهم من لايضرُّ ولا ينفع من دون الله -تعالى-، وتوضيح المُراد من الآيات ما يأتي:
- بيان اتِّخاذ الكفَّار لنفسهم آلهةً تُعبد ممَّا يَصنعون؛ إذ يصنعون جماداتٍ من أصنامٍ بواسطة الأخشاب والأحجار وغيرها، ويقدِّمون لها القرابين فيعبدون ما لا يشعر ولا يعقل، وفي ذلك استنكار ما يعبدون من دون الله -تعالى- ما لا يمتلك صفات الأُلوهيَّة كالعلم والحياة وغيرها.
- تأكيد وحدانيَّة الله -تعالى-، وأنه لا إله يُعبد إلَّا هو، والله -تعالى- لا يحبُّ كل من استكبر وأعرض عن توحيده، وفي هذا توبيخٌ ووعيدٌ لما ينتظرهم نتيجة أعمالهم.
- علم الله -تعالى- الذي وسِع كلَّ شيءٍ؛ فهو يعلم السِّرَّ وأخفى من الأقوال والأفعال، وهو يعلم إصرار الكافرين على كفرهم، وسيُجازيهم على ما فعلوا.
- بيان موقف الكافرين من آيات الله -تعالى- وطعنهم بها، ووصْفها بأنَّها من الأساطير القديمة والبطلان، وإنذار الله -تعالى- لهم بأنَّه سيعاقبهم على وزرهم هذا أضعافاً؛ لأنَّهم أضلُّوا غيرهم باستكبارهم وإنكارهم.
- توضيح عاقبة من كذَّب واستكبروتمرَّد في الحياة الدُّنيا، واستحقاقهم غضب الله -تعالى- وعذابه بإهلاكهم في دنياهم، وما ينتظرهم من العذاب والخزي في الآخرة نتيجة أعمالهم، وأنَّ مردَّهم النهائي هو نار جهنَّم خالدين فيها.
- وصف حال الكافرين عند موتهم باستسلامهم لله -تعالى-، وإيمانهم رغم كفرهم بحياتهم وتكذيبهم للبعث وآيات الله.
سوء عاقبة المكذّبين في الآيات من 106 - 109
وردت مواضع أخرى في سورة النَّحل تتحدَّث عن عاقبة المكذِّبين من قوله -تعالى-: (مَن كَفَرَ بِاللَّـهِ مِن بَعدِ إيمانِهِ إِلّا مَن أُكرِهَ وَقَلبُهُ مُطمَئِنٌّ بِالإيمانِ وَلـكِن مَن شَرَحَ بِالكُفرِ صَدرًا فَعَلَيهِم غَضَبٌ مِنَ اللَّـهِ وَلَهُم عَذابٌ عَظيمٌ)، وحتى قوله -تعالى-: (لا جَرَمَ أَنَّهُم فِي الآخِرَةِ هُمُ الخاسِرونَ)، وفي الآيات بيانٌ لحال من كفر وارتدَّ عن الحقِّ بعد إيمانه بالله -تعالى- باستثناء من أُكره منهم، وكانوا قد ارتدوا بسبب غفلتهم وتفضيلهم لشهوات وملذَّات الحياة الدُّنيا عن الآخرة، فأنذرهم الله -تعالى- باستحقاق غضبه وعذابه عليهم، وحرمانهم وحجب الهداية عنهم؛ لأنَّه قد طُبع على قلوبهم وسمعهم وأبصارهم، وقد ورد أنَّ جزءاً من الآيات نزلت بالصَّحابيِّ عمار بن ياسر -رضي الله عنه- عند ذكره آلهة المشركين بخيرٍ من شدَّة تعذيبهم له رغم اطمئنان قلبه بالإيمان، وقد أجاز رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعله، واستدلَّ الفقهاء بهذا الفعل بجواز التَّلفُّظ بالكفر بحال الإكراه والخوف على النَّفس من الموت .
تفسير الآيات المتعلقة بثواب المتَّقين
تضمّنت سورة النَّحل آياتٍ تتحدَّث عن ثواب المتَّقين في قوله -تعالى-: (وَقيلَ لِلَّذينَ اتَّقَوا ماذا أَنزَلَ رَبُّكُم قالوا خَيرًا لِلَّذينَ أَحسَنوا في هـذِهِ الدُّنيا حَسَنَةٌ وَلَدارُ الآخِرَةِ خَيرٌ وَلَنِعمَ دارُ المُتَّقينَ* جَنّاتُ عَدنٍ يَدخُلونَها تَجري مِن تَحتِهَا الأَنهارُ لَهُم فيها ما يَشاءونَ كَذلِكَ يَجزِي اللَّـهُ المُتَّقينَ* الَّذينَ تَتَوَفّاهُمُ المَلائِكَةُ طَيِّبينَ يَقولونَ سَلامٌ عَلَيكُمُ ادخُلُوا الجَنَّةَ بِما كُنتُم تَعمَلونَ)، وفيها بيانُ حال المتَّقين المؤمنين عندما تَقبِض الملائكة أرواحهم، فيكونوا صالحين طيِّبين طاهرين من الكفر، فتُسلِّم عليهم الملائكة وتُبشِّرهم بما ينتظرهم من جنات الخلد مُقابل أعمالهم الصَّالحة، وإحسانهم في الحياة الدُّنيا، وابتعادهم عن المعاصي، وحفظ أنفسهم عن الوقوع بالأخطاء والزَّلات.
وفي الآيات إقرار المتَّقين واعترافهم بالخيرالذي أنزله الله -تعالى-؛ وهو النَّبيِّ محمد -صلى الله عليه وسلم-، وذلك عند سؤالهم عما أنزل الله -تعالى- عليهم، خلاف ما فعل الكافرين بإنكارهم لآيات الله. وتدلُّ الآيات على مكانة ومنزلة المتَّقين في الآخرة وما ينتظرهم من جنَّات عدن، وفيها ما تشتهي أنفسهم وكلُّ ما يطلبون جزاءً بما صنعوا في دنياهم وحرصهم على تقرُّبهم من الله -تعالى- والامتثال لأوامره واجتنابهم لنواهيه، وكلُّ هذا النَّعيم في الآخرة من رحمة الله وفضله على العباد.
تفسير آيات الوصايا
الوصايا في الآيات من 90 - 97
تطرَّقت سورة النَّحل لوصايا عدَّة من قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ)، وحتى قوله: (مَن عَمِلَ صالِحًا مِن ذَكَرٍ أَو أُنثى وَهُوَ مُؤمِنٌ فَلَنُحيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَلَنَجزِيَنَّهُم أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ)، وبيان هذه الوصايا فيما يأتي:
- أمر الله -تعالى- عباده بالعدل والإنصاف، والإحسان والتَّسامح والتَّوسُّط فيما بينهم.
- النهي عن المنكرات وكلِّ قبيحٍ من قولٍ أو عملٍ، والحرص على كبح جِماح الشَّهوات، والنَّهيُ عن الكِبَر والاستعلاء وظلم العباد، والحثّ على السَّعي لسدِّ حاجات العباد والأقرباء.
- التَّشديد على الحفاظ والوفاء بعهد الله -تعالى-، والتَّحذير من نقض الأيمان الموثّقة والمؤكَّدة بين العباد، والابتعاد عن المكر والخديعه، وقد شبَّه الله -تعالى- نقض اليمين كالمرأة التي أتمَّت غزلها وأحكمته ومن ثم حلّته ونكثته، وفي الآيات تحذير للمسلمين بأن لا يغترُّوا بكثرة المشركين وكثرة مالهم فينقضوا عن عهد الله -تعالى- وعهد النبيِّ غدراً بسبب عوضٍ تافهٍ من الدُّنيا وجزءٍ بسيطٍ من ملذَّاتها التي لا تُقارن بنعيم الآخرة، وإنَّما هو ابتلاءٌ واختبارٌ من الله -تعالى- لعباده رغم مقدرته على هداية الجميع، إلَّا أنَّ مشيئته وحكمته اقتضت حريَّة الإنسان باختيار الطَّاعة أو الإعراض؛ حتى يُميِّز أصحاب الحقِّ والباطل في الدُّنيا ويُحاسبهم يوم القايمة .
- تنبيه العباد أنَّ كل ما في هذه الدُّنيا مصيره الزَّوال حتى لو بلغ ما بلغ من الكثرة، وما هو باقٍ غير زائلٍ هو نعيم الله -تعالى- وجنَّته في الآخرة التي أعدَّها للمتَّقين الذين التزموا بأوامره واتبعوا نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- وصبروا وجاهدوا وثبتوا على الحقِّ رغم كلِّ المغريات والابتلاءات والصُّعوبات.
- الحثُّ على طاعة الله -تعالى- ببيان أجر كلِّ من عمل صالحاً من ذكرٍ وأنثى، وهذا تأكيدٌ على أنَّ الرَّجل والمرأة مُتساويان بالتَّكليف، إذ يرزق الله -تعالى- كلَّ من آمن وعمل صالحاً حياةً طيِّبةً مليئةً بالرَّاحة والطمأنينة والرِّضا في الدُّنيا، ويرزقهم نعيم الجنَّة في الآخرة، وقد ذكر بعض المفسِّرون أن الحياة الطيبة هي الجنَّة .
الوصايا في الآيات من 125 - 128
وصَّى الله -تعالى- نبيَّه -صلى الله عليه وسلم- وعباده في موضعٍ آخر في السُّورة عند قوله -تعالى-: (ادعُ إِلى سَبيلِ رَبِّكَ بِالحِكمَةِ وَالمَوعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجادِلهُم بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبيلِهِ وَهُوَ أَعلَمُ بِالمُهتَدينَ)، حتى نهاية السُّورة، وقد بيَّن طرق الدَّعوة وما يجب أن يتَّبعه النَّبيُّ -صلى الله عليه وسلم- ويتَّصف بهِ كلُّ داعٍ الى الإسلام ، وقد قيل بأنَّ هذه الآيات نزلت لمَّا استُشهد حمزة بن عبد المطلب -رضي الله عنه- عمّ الرَّسول -صلى الله عليه وسلم- وكان المشركون قد مثَّلوا بجثَّته؛ فلما سمع المسلمون ذلك أقسموا أن ينتقموا له أشدَّ انتقام، وبيان طرق ووسائل الدَّعوة في الآيات فيما يأتي:
- مُخاطبة النَّاس بما يُحبُّون باستمالة عاطفتهم وإقناعهم بالأدَّلة والحِجج المفيدة وتبليغهم إياها بالحكمة، وفهم أن الهداية والرُّشد عِلمها عند الله وحده.
- الإشارة الى أنَّ الاقتصاص وأخذ الحقِّ ممَّن أساء وأجرم وظَلم يكون بمثل ما فعل بالمظلوم من دون زيادةٍ وجورٍ، وقد بيَّن الله -تعالى- أنَّ الصَّبر خيرٌ وأفضل من الاقتصاص والانتقام، فالله -تعالى- مُنتقم لعباده أشدَّ انتقام.
- الحثُّ على الصَّبر والثَّبات، والحرص على عدم تملُّك مشاعر الضِّيق والاستسلام حتى لو لاقى العبد الإعراض والأذى والمكر من الكافرين؛ لأنَّ الله -تعالى- حتماً ناصر ومؤيِّد عباده الذين أطاعوه واجتنبوا المعاصي والذنوب وحرصوا على أداء حقوقه وفروضه.
تفسير الآيات المتعلِّقة بالأحكام الشرعيَّة
الاستعاذة بالله عند قراءة القرآن وتجنّب وساوس الشيطان
وردت عدّة آيات في سورة النَّحل تتحدَّث عن أحكام شرعيَّة تتعلَّق بالقرآن الكريم وبوسوسة الشَّيطان ، كقوله -تعالى-: (فَإِذا قَرَأتَ القُرآنَ فَاستَعِذ بِاللَّـهِ مِنَ الشَّيطانِ الرَّجيمِ* إِنَّهُ لَيسَ لَهُ سُلطانٌ عَلَى الَّذينَ آمَنوا وَعَلى رَبِّهِم يَتَوَكَّلونَ* إِنَّما سُلطانُهُ عَلَى الَّذينَ يَتَوَلَّونَهُ وَالَّذينَ هُم بِهِ مُشرِكونَ)، وفي الآيات حثَّ الله -تعالى- نبيِّه -صلى الله عليه وسلم- وعباده بالاستعاذة من الشَّيطان الرَّجيم عند المباشرة بقراءة القرآن الكريم أو عند القيام لأداء الصَّلاة، لما فيها من أثرٍ على النَّفس كالسَّكينة والطمأنينة، بالإضافة إلى الحرص على التوكُّل على الله -تعالى- وتفويض الأمر إليه في أمور الحياة كلِّها، ممَّا يؤدِّي إلى منع تسلط الشَّيطان ووسوسته على المؤمنين، إذ يتسلَّط الشَّيطان على كلِّ من يُطاوعه في وسوساته بارتكاب المعاصي أو من يتَّخذه وليَّاً فيشرك بالله -تعالى-.
ويرى جمهور العلماء أنّ الاستعاذة مُستحبَّة وليست بواجبةٍ، وتدلُّ الآيات أيضاً على عظمة القرآن الكريم ، فهو كلام الله -تعالى- المُنزَّل باللغة العربيَّة الواضحة البليغة، وهو مُحكمُ البيان والنُّور المبين والذِّكر الحكيم، وهو منهج المسلمين ودستورهم؛ لأنه السبيل للصَّلاح والنَّجاة والفلاح في دنياهم وآخرتهم، وذلك باتباع والتزام أوامر الله الواردة فيه وبتدبره وتلاوته.
ما يحلّ للمؤمنين من الطعام وما يُحرّم عليهم
ورد في سورة أحكام تتعلَّق بما يحلُّ للمؤمنين من الطعام وما يحرم عليهم في قوله -تعالى-: (فَكُلوا مِمّا رَزَقَكُمُ اللَّـهُ حَلالًا طَيِّبًا وَاشكُروا نِعمَتَ اللَّـهِ إِن كُنتُم إِيّاهُ تَعبُدونَ)، حتى قوله -تعالى-: (وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هـذا حَلالٌ وَهـذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ)، وفي الآيات إباحة الأكل من كلِّ ما خلق الله -تعالى- من حلالٍ طيِّب لم يرد به نصٌ يُحرِّمه، وأمر الله -تعالى- عباده بشكره وحمده على هذه النِّعم إن كانوا عابدين طائعين.
ويجب الحرص على الابتعاد وترك الخبيث من الطَّعام، وهو ما حرَّمه الله -تعالى- على عباده؛ مثل الميتة، والدم، ولحم الخنزير، وما ذُكر اسم غير الله عليه من الذبائح، إلَّا من كان مُضطراً يخشى على نفسه من الهلاك فيأكل منها حاجته فقط، واستُثني من الدَّم والميتة: الكبد والطحال، والسمك والجراد، وورد ذلك عن النبيِّ بأثرٍ صحيحٍ من السنَّة ، قال -تعالى-: (نَّما حَرَّمَ عَلَيكُمُ المَيتَةَ وَالدَّمَ وَلَحمَ الخِنزيرِ وَما أُهِلَّ لِغَيرِ اللَّـهِ بِهِ فَمَنِ اضطُرَّ غَيرَ باغٍ وَلا عادٍ فَإِنَّ اللَّـهَ غَفورٌ رَحيمٌ).
تجنّب الكذب بتحليل الحرام وتحريم الحلال
قال الله -تعالى-: (وَلا تَقولوا لِما تَصِفُ أَلسِنَتُكُمُ الكَذِبَ هـذا حَلالٌ وَهـذا حَرامٌ لِتَفتَروا عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ إِنَّ الَّذينَ يَفتَرونَ عَلَى اللَّـهِ الكَذِبَ لا يُفلِحونَ* مَتاعٌ قَليلٌ وَلَهُم عَذابٌ أَليمٌ)، فلا يحقُّ لأحدٍ من خلق الله -تعالى- إطلاق أحكام التَّحريم أو التَّحليل في شيءٍ من دون دليلٍ أو حجَّةٍ من الكتاب أو السَّنة بسبب أهوائهم وأرائهم وجهلهم؛ لأنَّ فعل ذلك من دون دليلٍ إنَّما هو افتراءٌ على الله -تعالى-؛ ولأنَّ المُطلق الوحيد في أحكام الشريعة هو الله -جل وعلا-، ومن فعل ذلك فقد استحقَّ العذاب والشَّقاء في الآخرة.
تفسير الآيات المتعلقة بالأمم السابقة
القرية التي كفرت بأنعم الله
تضمّنت سورة النحل آيات تتعلق بالأمم السابقة، قال الله -تعالى-: (وَضَرَبَ اللَّـهُ مَثَلًا قَريَةً كانَت آمِنَةً مُطمَئِنَّةً يَأتيها رِزقُها رَغَدًا مِن كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَت بِأَنعُمِ اللَّـهِ فَأَذاقَهَا اللَّـهُ لِباسَ الجوعِ وَالخَوفِ بِما كانوا يَصنَعونَ* وَلَقَد جاءَهُم رَسولٌ مِنهُم فَكَذَّبوهُ فَأَخَذَهُمُ العَذابُ وَهُم ظالِمونَ) فالله -تعالى- ضرب مثلاً بقرية كان سُكّانها آمنين مُطمئنين يأتيهم رزقهم من كل مكان، وكان هذا الرزق دائم غير مُنقطع، إلا أنهم كفروا وكذبوا رسالات الله وأصرّوا على عبادة الأوثان من دون الله، فحرمهم الله النعيم والطمأنينة. رغم إرسال الله لهم رسولاً منهم وهو محمد -صلى الله عليه وسلم- يتكلّم لغتهم ويعرف أحوالهم وطِباعهم، إلا أنهم كذّبوه واستكبروا، فغضب الله عليهم، وفي هذا المثل إنذار لأهل مكة في عهد النبيّ ليتّعظوا ولا يبقوا على ضلالهم فيُلاقوا ما لاقاه سابقهم من أهلها، لأن دوام النعم لا يكون إلا بالإيمان والإخلاص والإحسان لله -تعالى-.
وذهب أغلب المفسرون بأن القرية المضروب بها المثل هي مكة ، فلما كذّبوا بمحمد ورسالته وأخرجوه من بلده استحقوا عقاب الله بإذاقتهم الخوف والجوع جزاء عملهم وكفرهم، حيث أصابهم القحط والخوف من الغزوات وغيره. وقد رجّح الرازي وابن عطية أن القرية المذكورة هي قرية من قرى الأمم الغابرة وليست قرية مُحددة، وإنما ضُرب المثل للتحذير والإنذار بوجوب الإيمان بالله وبرسله وتشريعاته، والحرص على إقرار نعمه وحمده عليها، وتوضيح أن الله لا يُصيب قوماً بالعذاب إلا بسبب جحدهم واستكبارهم وسوء عملهم.
نبيّ الله إبراهيم عليه السلام
وردت مواضع أخرى في السورة تتحدث عن نبيّ الله إبراهيم، ووُصِف أنّه أُمّة في قوله -تعالى-: (إِنَّ إِبراهيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا لِلَّـهِ حَنيفًا وَلَم يَكُ مِنَ المُشرِكينَ)، حيث تطرّقت الآيات بالحديث عن نبي الله إبراهيم -عليه السلام- وصفاته، إذ كان موحّداً، مُحباً للخير ومعلّماً له، جامعاً للخِصال والأخلاق الحميدة، ويمتلك من العلم الكثير، وقد كان قانتاً شاكراً مُطيعاً لا يخشى إلا الله -تعالى-، وكان حنيفاً لا يميل إلا لدين الحق ولم يُكن أبداً من المشركين. وقد اصطفاه الله واختاره للنبوة ورزقه الحسنات في الدنيا؛ كالولد الصالح، وطول العمر، والسعة في الرزق، وتحبيب خلق الله به، وباتّخاذه قدوة، وانتساب باقي الأديان لملّته، إذ أوحى الله -تعالى- لنبيّه محمد -عليه السلام- باتّباع ما كان عليه إبراهيم من التوحيد.
قوم موسى عليه السلام
قال الله -تعالى-: (إِنَّما جُعِلَ السَّبتُ عَلَى الَّذينَ اختَلَفوا فيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحكُمُ بَينَهُم يَومَ القِيامَةِ فيما كانوا فيهِ يَختَلِفونَ)، فقد أمر موسى -عليه السلام- اليهود أن يُخصّصوا يوم الجمعة لعبادة الله -تعالى-، إلا أنهم رفضوا ذلك وطلبوا أن يكون هذا اليوم في السبت؛ لأنه اليوم الذي فرغ فيه الله من خلق السماوات والأرض، فشرع الله لهم ذلك مع التشديد عليهم دون غيرهم من الأقوام لمخالفتهم لأمره ولتمسكهم بيوم السبت واتخاذه للعبادة، فأوجب عليهم احترام هذا اليوم وتعظيمه، وحرم عليهم الصيد بهذا اليوم، فصاروا يُحلّلوا الصيد فيه تارة ويحرّموه تارة ويتحايلوا بذلك، والله -سبحانه- سيحكم فيهم يوم القيامة وسيجزيهم جزاء ما عملوا.