المحسنات البديعية في المقامة البغدادية
المحسنات البديعية في المقامة البغدادية
عرض الهمذاني مقامته بطريقة رشيقة، مرحة، وبنثر مسجوع، فيه الكثير من الزخرفة، والإيقاع الموسيقي الجميل، فقد تضمنت المقامة البغدادية مجموعة من المحسنات اللفظية، منها ما يأتي:
السجع
إن أهم ما يُميّز المقامة كثرة السجع فيها، فقد احتوت على أمثلة كثيرة عليه، منها ما يأتي:
- اشتهَيْتُ الأزَاذَ، وأنَا ببَغدَاذَ.
- يَسُوقُ بِالجَهْدِ حِمِارَهُ، وَيُطَرِّفُ بِالعَقْدِ إزَارَهُ.
- ظَفِرْنَا وَاللهِ بِصَيْدٍ، وَحَيَّاكَ اللهُ أَبَا زَيْدٍ.
- وَأَيْنَ نَزَلْتَ؟ وَمَتَى وَافَيْتَ؟ وَهَلُمَّ إِلَى البَيْتِ.
- لَسْتُ بِأَبِي زَيْدٍ، وَلَكِنِّي أَبْو عُبَيْدٍ.
- لَعَنَ اللهُ الشَّيطَانَ، وَأَبْعَدَ النِّسْيانَ.
- قدْ نَبَتَ الرَّبِيعُ عَلَى دِمْنَتِهِ، وَأَرْجُو أَنْ يُصَيِّرَهُ اللهُ إِلَى جَنَّتِهِ.
- وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ.
- يَتَقَاطَرُ شِوَاؤُهُ عَرَقاً، وَتَتَسَايَلُ جُواذِبَاتُهُ مَرَقاً.
- مِنْ هَذا الشِّواءِ، ثُمَّ زِنْ لَهُ مِنْ تِلْكَ الحَلْواءِ.
- مِنْ تِلْكَ الأَطْباقِ، وانْضِدْ عَلَيْهَا أَوْرَاقَ الرُّقَاقِ.
- فَأنْخَى الشَّوّاءُ بِسَاطُورِهِ، عَلَى زُبْدَةِ تَنُّورِهِ.
- فَجَعَلها كَالكُحْلِ سَحْقاً، وَكَالطِّحْنِ دَقّاً.
- ثُمَّ جَلسَ وَجَلَسْتُ، ولا يَئِسَ وَلا يَئِسْتُ.
الموازنة
ومن الأمثلة عليها: رَقِيقَ القِشْرِ، كَثِيفِ الحَشْو.
الجناس الناقص
ومن الأمثلة على الجناس الناقص ما يأتي:
- وَلَيِسَ مَعْي عَقْدٌ عَلى نَقْدٍ.
- يَدَ البِدَارِ، إِلي الصِدَارِ.
- يَذُوبُ كَالصَّمْغِ، قَبْلَ المَضْغِ.
- لِيَقْمَعَ هَذِهِ الصَّارَّةَ، وَيَفْثأَ هذِهِ اللُّقَمَ الحَارَّةَ.
- فَلَكَمَهُ لَكْمَةً، وَثَنَّى عَلَيْهِ بِلَطْمَةٍ.
المقابلة
ومن الأمثلة عليها الآتي:
- أَشَابٌ كَعَهْدي، أَمْ شَابَ بَعْدِي؟
التصريع
ومن الأمثلة عليه: أَعْمِلْ لِرِزْقِكَ كُلَّ آلـهْ * لاَ تَقْعُدَنَّ بِكُلِّ حَـالَـهْ.
حسن التعليل
ومن الأمثلة على ذلك: هَلُمَّ إِلى البَيْتِ نُصِبْ غَدَاءً، أَوْ إِلَى السُّوقِ نَشْتَرِ شِواءً، وَالسُّوقُ أَقْرَبُ، وَطَعَامُهُ أَطْيَبُ.
الاقتباس
ومن الأمثلة على الاقتباس : "إِنَّا للهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ".
نص المقامة البغدادية
يتحدَّث بديع الزمان الهمذانيُّ في المقامة البغدادية على لسان راويه عيسى بن هشام، حيثُ يقولُ: "حدَّثَنَا عيَسى بنُ هشامٍ قالَ: اشتهَيْتُ الأزَاذَ، وأنَا ببَغدَاذَ، وليِسَ معْي عقدٌ على نقدٍ، فخَرجْتُ أنتَهِزُ محالَّهُ حتَّى أحلَّنِي الكَرخَ، فإذَا أنَا بسَواديٍّ يسُوقُ بالجهْدِ حمِارَهُ، ويَطَرِّفُ بالعَقدِ إزَارَهُ، فقلْتُ: ظفِرْنَا واللهِ بصَيدٍ، وحيَّاكَ اللهُ أبَا زَيدٍ، منْ أينَ أقبَلْتَ؟ وأيْنَ نزَلتَ؟ ومتَى وافَيتَ؟ وهلُمَّ إلَى البيتِ.
فقَالَ السَّواديُّ: لستُ بأبِي زَيدٍ، ولَكنِّي أَبو عبَيدٍ، فقُلتُ: نعَمْ، لعَنَ اللهُ الشَّيطانَ، وأَبعَدَ النِّسيانَ، أنسَانِيكَ طولُ العهدِ، واتصَالُ البُعدِ، فكَيفَ حالُ أبِيكَ ؟ أشَابٌ كعَهدي، أمْ شابَ بَعدِي؟ فقَالَ: قدْ نبَتَ الرَّبيعُ علَى دمنَتِهِ، وأَرجُو أنْ يصيِّرَهُ اللهُ إلَى جنَّتِهِ، فقُلتُ: إنَّا لله وإنَّا إلَيْه راجعُونَ، ولاَ حوْلَ ولاَ قوةَ إلاَّ باللهِ العلِيِّ العظِيم، ومدَدْتُ يدَ البدَارِ، إِلي الصدَارِ، أرِيدُ تمْزِيقَهُ.
فَقبضَ السوادِيُّ على خصْرِي بجمُعْهِ، وقَالَ: نشَدتُكَ اللهَ لا مزَّقتَهُ، فقُلتُ: هلُمَّ إِلى البيتِ نصِبْ غدَاءً، أَو إلَى السُّوقِ نَشترِ شواءً، والسُّوقُ أَقربُ، وطَعامُهُ أَطيبُ، فاستَفَزَّتْهُ حمَةُ القرَمِ، وعطَفَتْهُ عاطِفُةُ اللَّقَمِ، وطَمِعَ، ولَمْ يعلَمْ أنَّهُ وقَعَ، ثمَّ أتيْنَا شوَّاءً يتقَاطَرُ شوَاؤُهُ عرقاً، وتتَسَايَلُ جوذاباتُهُ مرقاً، فقلْتُ: افرِزْ لأبِي زَيدٍ منْ هذا الشِواءِ، ثمَّ زنْ لهُ منْ تلْكَ الحلواءِ.
واخترْ لهُ منْ تلكَ الأطباقِ، وانضِدْ عليْهَا أورَاقَ الرُّقاقِ، وَرشَّ عَليهِ شَيئَاً منْ ماءِ السُّمَاقِ، ليأكُلَهُ أبُو زَيدٍ هنيًّا، فانْحنى الشَّواءُ بِساطُورِهِ، علَى زُبدَةِ تنُّورِهِ، فَجعَلها كالكحْلِ سَحقًا، وكالطِّحْنِ دقْا، ثمَّ جلسَ وجلَسْتُ، ولا يئِسَ ولا يئِستُ، حتَّى استَوفَيْنَا، وَقلتُ لِصاحِبِ الحلوَى: زنْ لأبي زيْدٍ منَ اللُّوزينج رطلَيْنِ فَهوَ أَجرَى فِي الحُلوقِ، وَأمضَى فِي العرُوقِ، وليَكُنْ ليلي العُمرِ، يومِيَّ النَّشرِ، رقِيقَ القِشرِ، كثِيفِ الحشو، لؤْلؤِيَّ الدُّهنِ، كوكَبيَّ اللَّونِ.
يذُوبُ كالصَّمْغِ، قَبلَ المضْغِ، ليَأْكُلهُ أَبو زيدٍ هنِيًّا، قالَ: فوَزنَهُ ثمَّ قعَدَ وقَعدْتُ، وَجرَّدَ وَجرَّدْتُ، حتىَّ استَوْفَيْنَاهُ، ثمَّ قُلتُ: يا أبَا زَيْدٍ ما أَحوجَنَا إلَى ماءٍ يشعْشِعُ بالثَّلجِ، لِيقمَعَ هذِهِ الصَّارَّة، وَيفثأَ هذهِ اللُّقمَ الحارَّةَ، اجلِسْ يا أبَا َزيدٍ حتَّى نأتِيكَ بِسقَّاءٍ، يَأتِيكَ بِشَربةِ ماءٍ، ثمَّ خَرجتُ وَجَلستُ بِحيثُ أَراهُ ولا يرانِي أَنظرُ ما يَصنعُ، فَلمَّا أَبطأتُ عَليهِ قَام السَّواديُّ إِلى حمَارِهِ.
فَاعتلَقَ الشَّوَّاء بِإِزارِهِ، وَقالَ: أَينَ ثَمنُ ما أَكَلتَ؟ فَقالَ: أَبو زَيدٍ: أَكَلتهُ ضَيفًا، فَلكمهُ لَكمةً، وَثنَّى عَليهِ بِلطمَةٍ، ثمَّ قالَ الشَّوَّاءُ: هاكَ، ومتَى دَعونَاكَ؟ زنْ يَا أَخا القحَةِ عِشرِينَ، فَجعلَ السَّوَاديُّ يَبكِي وَيَحلُّ عُقدهُ بِأَسنانِهِ وَيقولُ: كمْ قُلتُ لِذاكَ القرَيْدِ، أَنا أَبو عُبيْدٍ، وهوَ يَقولُ: أَنت أَبو زَيدٍ، فَأنشَدْتُ:
أعْمِلْ لرِزْقِكَ كلَّ آلـهْ
- لا تقعُدَنَّ بكُلِّ حـالَـهْ
وانْهَضْ بكُلِّ عظِيَمةٍ
- فالمَرءُ يعجِزُ لا محَالَهْ"
نبذة عن المحسنات البديعية
المحسنات البديعية أو علم البديع، هو أحد علوم البلاغة ويُعرَّف بأنه: وجوه تحسين الكلام بعد مطابقته لمقتضى الحال، فيكون تحسين الكلام من جهتين اللفظ والمعنى، وقد قسَّمَ علماء البلاغة المحسنات البديعية إلى قسمين كالآتي:
- المحسنات اللفظية
وهي الوجوه التي يتم بها تحسين اللفظ، كالجناس والسجع والموازنة والتصريع.
- المحسنات المعنوية
وهي الوجوه التي يتم بها تحسين المعنى، كالطباق والمقابلة والتورية وحُسن التعليل.