الغموض في الشعر العربي المعاصر
تعريف الغموض في الشعر العربي المعاصر
للغموض في الفكر الشعري، خاصية مميزة إذ إنه ينبع مما يتمتع به الشاعر من أمانة وموضوعية، وغالبًا ما يكون الغموض في طبيعة تفكيره، قبل أن يتجسد في أبيات قصيدته الشعرية، إذ ينطلق الغموض في الشعر المعاصر من محور أولي هو اللغة، بخاصة عندما يكلفها الشاعر أكثر مما تتحمل؛ فيفرض عليها مسؤولية كبيرة أكثر مما تحمل.
ويبدو أن الهدف من وراء استخدام الغموض في الشعر المعاصر هو البحث عن العناصر الإيحائية وإثارة غريزة القارئ، أو المتلقي للبحث عن حقيقة ما وراء النص الشعري وما قصده الشاعر فيه، وعليه يبدو أن الغموض أحد لوازم الشعر المهمة والسبب في ذلك؛ يعود إلى رؤيا وتفكير شعري، وثقافي عميق، كما أنه عنصر إلى جانب: اللغة والصورة، التي تتكون منها القصيدة المعاصرة.
أسباب الغموض في الشعر العربي المعاصر
إن الغموض في القصيدة الشعرية المعاصرة، أخذ يكبر وقد أصبح يتجاوز الكثير من الإدراك، ولم يعد يخضع للواقعية أو العقلانية ، ويبدو أن أسباب الغموض ليست واحدة، بل هي متعددة منها ما يتعلق بالشاعر نفسه، ومنها ما يتعلق بالنص، وقد يتعلق الغموض بالمتلقي ذاته، الذي يقرأ أو يستمع للشعر، وهذه الأسباب تتمثل في الآتي:
أسباب متعلقة بالشاعر
يبدو أن الغموض الذي يكتنف القصائد المعاصرة، قد يعود أساسًا إلى أن الشاعر يعتمد على ثقافته الخاصة، ولغته أكثر مما يعتمد على تجربته في الحياة. وهذه الثقافة غالبا، ما تؤثر على ما ينظمه من الشعر، كما تلعب دورًا رئيسيًا وأساسيًا في إكساب النص الشعري، حالة من الغموض الممتع والمؤثر .
عادة يلجأ الشاعر إلى فكرة الغموض في قصيدته؛ طلبا للتجديد؛ إذ إنه يرى أنّ عليه أن يساير كل ما يطرأ على الحياة من تغير، إضافةً إلى رغبته في أن يكون سباقًا في هذا المجال. في حين أنه يبدو أن طبيعة هذا التحدي، قد تخالف ما اعتاد عليه الناس، وتفاجئهم بما قد لا يعرفونه؛ فينعكس هذا بالسلب على القيمة، التي يتمتع بها النص الشعري في كثير من الأحيان.
- فيقول الشاعر محمود درويش، في محاولة لإضفاء الغموض على نفسه وشعره:
طُوبَى لِشَيْءٍ غَامِضٍ
- طُوبَى لِشَيْءٍ لَمْ يَصِلْ
- وكذلك يقول في موضع آخر:
لَنْ تَفْهَمُونِي دُونَ مُعْجِزَةٍ
- لِأَنَّ لُغَاتِكُمْ مَفْهُومَةٌ
إِنَّ الوُضُوحَ جَرِيمَةٌ
أسباب متعلقة بالنص
لطالما كانت لغة الشعر تختلف تماما عن لغة النثر ؛ إذ إنها تتمتع بخصوصية تعرف بالانحراف أو الانزياح اللغوي في الشعر، إذ تبتعد عن المعنى العادي للكلمة، وتعتبر مشكلة الغموض في النص الشعر من أولى المشاكل أو الصعاب التي تواجه المتلقي أو الناقد، وهو الأمر الذي يراه بعضهم أنه من الطبيعي أن يكون الشعر في بعض من مواضيعه غير مفهوم؛ فهي بالتالي سمة أساسية من سمات الشعر.
كما أصبح الغموض من لوازم الشعر المعاصر؛ إذ يبدو أن الغموض في الشعر، هو الذي ينتج عنه معان قيمة وعميقة ومؤثرة في الوقت نفسه، وليس فقط مجرد الإيهام، أو التعقيد اللغوي، الذي لا طائل من ورائه، وعليه تتجلى مظاهر غموض الشعر في خمسة أمور أساسية: هي غموض الألفاظ، وغموض التراكيب، والمعنى والصورة، والموسيقى.
- فيقول الشاعر أدونيس:
حَيْثُ الغُمُوضُ أَنْ تَحْيَا
- حَيْثُ الوُضُوحُ أَنْ تَمُوتْ
أسباب متعلقة بالمتلقي
إن الشعر في الأساس يقوم على فكرة الغموض، التي تتمثل في كونه متعدد الدلالات والإيحاءات، وكذلك الصور الشعرية، وهي أمور جميعها ناتجة عن كثافة وحدة الشعر النابعة، من أساليب البلاغة الشعرية، لا سيما أسلوب الاتساع أو العدول، المتمثل في تجاوز اللغة الشعرية للوصف المباشر والتعبير عن الحقيقة، بمختلف الدلالات، التي تشكل جوهر النص الشعري.
فالمتلقي هنا، سيكون دوره إعادة تحليل، وتفكيك هذا النص، وإنتاجه مرة أخرى، وفقا لقراءته وتحليله هو، وهي في حقيقتها قد تحتمل أكثر من تفسير وتأويل لذات النص الشعري.
- كما ذهب الشاعر أبي تمام في قوله:
أنام ملء جفوني عن شواردها
- ويسهر الخلق جراها ويختصم
مراحل تطور الغموض في الشعر العربي المعاصر
الغموض في الشعر المعاصر على قسمين: الأول هو الغموض المتواصل مع الغموض الذي كان سائدًا في العصور الأدبية السابقة، والثاني كان وليد الحضارة الحديثة، الذي نتجت في الغالب عن التواصل بين: الأدب العربي والغربي، وعليه، فإن مراحل الغموض، كانت على النحو الآتي:
- مرحلة إسقاط الأحداث القديمة على الأحداث المعاصرة
يبدو أن الغموض في الشعر المعاصر كان قد تطور، بحسب التكوين والتفكير الفلسفي، الذي ظهر منه الرمز التشبيهي الذي رمز لفكرة الحرية للمرأة، أو الذي رمز للوطن بالفتاة الشابة، فضلًا عن الرموز التراثية المتعددة، التي تتناقلها الأجيال، وهذا الأسلوب الشعري ازدهر بعد أن شاع استخدام الغرب للرموز، بشكل ملحوظ.
ونتيجة لذلك؛ ما كان من الشعراء العرب إلا أن عمدوا إلى الأسلوب ذاته، في كتابتهم للشعر؛ نظرًا لعدم قدرتهم في كثير من الأحيان على المكاشفة والمصارحة؛ الأمر الذي دفعهم إلى نظم قصائد فيها الكثير من الغموض، وأغلب هؤلاء الشعراء كانوا متمكنين من اللغة وأدواتها وصورها الفنية، كما أنه لهم مخزون كبير من الثقافة الغربية.
فيقول الشاعر محمد بن علي السنوسي:
وانتحت(هند) وقد طافت بها
- نشوة الذكرى وأضناها السهود
أي حلم رف في أجفانها
- من خيال زار والمنأى بعيد
- مرحلة الإيحاء
وهذه المرحلة تتمثل في مرحلة الغموض الإيحائي بالمضمون للشعر، الذي تمثل في الشعر الذي نظمه شعراء المهجر، الذي كان أغلب أبياته تدور حول الطبيعة ومظاهرها الخلابة، فراحوا يتأملون كل جزء فيها، منذ بدء تكوينها وازدهارها حتى زوالها، ومن ثم يسقطونها على الإنسان، في مختلف مراحل حياته.
كقول الشاعر إيليا بو ماضي:
وَقَعَت نَحلَةٌ عَلى الأُقحُوانِ
- فَإِذا في القَفيرِ شُهدُ
وَمَشَت بَعدَها عَلى الأَغصانِ
- دودَةٌ فَالغُصونُ جُردُ
- مرحلة إخفاء الفكرة
وهي مرحلة عمد فيها الشعراء، إلى إخفاء فكرة النص الشعري الرئيسية؛ إذ سيجد كل من يقرأ النص الشعري، أن هنالك الكثير من الأفكار التي تثور في عقله ونفسه؛ فتارة يراها أنها أفكار وجدانية جديرة بالخفاء.
وتارة أخرى يرى أنها نتاج إبداع فكري يتنفس من خلالها الشاعر نسائم الحرية، وغالبا ما تكون القصيدة في هذه الأحوال، متكاملة التراكيب، واضحة اللفظ والمضمون.
كقول الشاعر محمد الفهد العيسى:
لفني الظلام بعد أن مضى الرفاق...
- ضعت في الأزقة..
في ليلة الرحيل امطرتها ادمعي
- ألوب كالسليم
العلاقة بين الرمز والغموض في الشعر العربي المعاصر
يبدو أن فلسفة الرمز كانت تمثل الأساس الذي قامت عليه فكرة الغموض في الشعر العربي فقد كان الشعر ذو المضمون الرمزي في حقيقته، غالبًا ما يحمل في مضمونه كثيرًا من التأويلات والتفسيرات، وهو الحال ذاته في الشعر العربي المعاصر، الذي راح يكتنفه الكثير من الغموض والإبهام.
إن استخدام الرمز في الشعر والأدب، كان وما يزال مظهرًا من مظاهر اللغة، ووسيلة مؤثرة، يستخدمها الشعراء في التعبير عما هو كامن في صدورهم، ويبدو أن من أسباب غموض الشعر المعاصر، هو أّ الشعر غالبا ما يوظف هذه الرموز؛ لخدمة فكرته الأساسية.
ولكن يختلف استخدام الرمز وتوظيفه في الشعر المعاصر، عن تلك الرموز، التي تم استخدامها قديما، والتي كانت شائعة ومتعارف عليها، فالليل كان رمزًا يشير إلى كثرة الهموم، في حين أن استخدام رمز البدر أو القمر، يدل على الكمال والجمال، وهو أمر اختلف في الشعر المعاصر ؛ إذ أصبح استخدام الرمز وتوظيفه في إضفاء الغموض على القصيدة، مرهون بثقافة المتلقي ذاته، وما يضعه هو: من التأويلات والتفسيرات.
أيضًا تختلف الرموز عن فكرة الغموض من حيث المصدر، فهي في الغالب يكون مصدرها الدين، أو التاريخ، أو حتى العلوم المختلفة، بعكس الغموض فهو عبارة عن خاصية وميزة تنبع من أمانة وموضوعية الشاعر نفسه، وتفكيره الفردي لا دخل لغيره فيه.
أبرز الآراء عن النقدية عن الغموض في الشعر العربي المعاصر
كان موقف النقاد متباينا، بين موافق على استخدام الغموض في الشعر، وبين معارض لها، ومن هؤلاء ما يأتي:
- أبو بكر الصولي
فقد ذهب في مؤلفه( أخبار أبي تمام) أنّ شيوع ظاهرة الغموض في الشعر، كانت من الأمور الجيدة، كما وقد أستحسن ما رآه من، غموض و إبهام .الآمدي أيضًا من النقاد الذين استحسنوا فكرة الغموض في الشعر العربي، لكنه فضل ما رآه في شعر البحتري، على أبي تمام :من حيث أنه رأى أن البحتري كان، أدق في المعنى، من أبي تمام.
- أبو إسحاق إبراهيم بن هلال الصابي
هو من أبرز المدافعين عن فكرة الغموض في الشعر العربي، لكنه كان لا يرى له ضرورة في النثر؛ فهو يرى بوجوب قصر الغموض، على الشعر فقط، دون غيره من الأدب.
- ابن سنان الخفاجي
هو من النقاد الذيم لم يفضلوا استخدام الغموض في الشعر بل كان يرى أن الشعر ينبغي أن يكون فيه الكثير من الوضوح والتيسير على القارئ أو المتلقي، فلا جدوى من استخدام الغموض سوى أنه يثقل كاهل القارئ أو المتلقي دون أدنى جدوى تذكر.
أبرز شعراء الغموض العرب
لعل من أبرز الشعراء العرب الذين شاع استخدامهم لأسلوب الغموض في أشعارهم التالية أسماؤهم:
- الشاعر أدونيس(1930)م
اسمه الحقيقي: علي أحمد سعيد السبر، شاعر ومفكر وناقد سوري، ولد في قرية قصابين، وتلقى تعليمه الأولي على يد والده، الذي كان صوفيًا محبا للشعر، وقد نشرت أول قصيدة له عام 1948م.
- الشاعر محمود درويش(1942_ 2008)م
شاعر فلسطيني من أهم شعراء القرن العشرين ، الذي ارتبط اسمه؛ بنضال أبناء وطنه وثورتهم، ولد في قرية البروة في فلسطين، وكان أبرز من أدخل الرمزية إلى الشعر العربي.
- الشاعر محمد عفيفي مطر (1935-2010)م
شاعر مصري، ولد في محافظة المنوفية، في جمهورية مصر العربية، درس في كلية الآداب قسم الفلسفة، وحصل على العديد من الجوائز الفنية، وكان من أبرز الشعراء في مصر، خلال ستينيات القرن الماضي.
كتب عن الغموض في الشعر العربي المعاصر
هناك العديد من المؤلفات العربية، التي تناولت ظاهرة الغموض في الشعر العربي المعاصر، ولعل من أهمها ما يأتي:
- كتاب الغموض في الشعر العربي
للكاتب مسعد بن عيد العطوي، الذي تناول فيه بالشرح ،مراحل الغموض في الشعر العربي، منذ العصر الجاهلي حتى الوقت الراهن كما تناول ماهية الغموض في الشعر السعودي.
- كتاب الغموض في الشعر الفلسطيني بعد عام 1987م
للمؤلفة سماح أحمد حلمي سليم وفيه تناولت مفهوم الغموض ودواعي شيوعه في الشعر العربي وأسبابه وأنواعه، وطرق توظيف الغموض في الشعر الفلسطيني، بعد انتفاضة عام 1987م.
- كتاب ظاهرة الغموض عند أدونيس ديوان أوراق في الريح
للمؤلفة بسمة رقول: وفيه تناولت أصول ظاهرة الغموض في الشعر العربي، وتعريفها وأسبابها والبواعث النفسية والاجتماعية التي دفعت إلى انتشارها في الشعر العربي.
نماذج عن الغموض في الشعر العربي المعاصر
هناك العديد من النماذج الشعرية عن الغموض في الشعر العربي المعاصر، ولعل من بينها ما يأتي:
- قال الشاعر أدونيس في قصيدة الفراغ:
حُطامُ الفراغ على جبهتي
- يمد المدى ويهيل الترابا
يُغلْغِلُ في خطواتي ظلامًا
- ويمتد في ناظري سرابا
- قال الشاعر محمود درويش في قصيدته أحب الخريف وظل المعاني:
أحبُّ الخريفَ وظلَّ المعاني، ويُعْجِبُني
- في الخريف غموضٌ خفيفٌ شفيفُ المناديل،
كالشعر غِبَّ ولادته إذ "يُزِغلُهُ"
- وَهَجُ الليل أو عتمةُ الضوء، يحبو
ولا يجد الاسم للشيء
- قال الشاعر محمد عفيفي مطر في قصيدته رفع القمع عن فراشة الدمع:
كان انتظارها الطالع في العينين
- فراشتين
أو أنها ألقت على يديه صدرها المبتل بالندى وبالمطر
- أو ضمدت أوسمة الموت بنهدها العريان
أو مسحت جراحه الخثراء والسيف الذي انكسر
- بثوبها الظمآن