الشعر التعليمي في العصر العباسي الثاني: مفهومه، أهدافه، نموذج عليه
مفهوم الشعر التعليمي في العصر العباسي الثاني
يعرَف بأنه الشعر الذي يسعى إلى أن يعلم الناس أمور حياتهم من الدين والدنيا وفق نمط شعري يعتمد على مخاطبة العقل والضمير بدلًا عن مخاطبة العقل والعاطفة، وقد استحدث في العصر العباسي الأول ، واستمر في النمو والازدهار وصولاً إلى العصر العباسي الثاني وعبره.
اختلفت الآراء حول نشأة الشعر التعليمي، فقد أرجعه بعض الدارسين إلى الاختلاط بالثقافات المختلفة من الهند واليونان، وقال آخرون إنه نمط قديم أعيد تطويره، ورآه البعض على أنه شكل مستحدث، لكنَّ الذي رجحه الدارسون أكثر هو أنَّ هذا الشعر جاء نتيجة التأثر بالثقافة الهندية تحديداً، والتي حصلت في العصر العباسي كثمرة من ثمار التلاقي الحضاري والانفتاح على الآخر.
نشأ هذا الشعر بالاستعانة بالثقافة الهندية وكنتيجة طبيعية لاتساع الحركة العلمية وزيادة طالبي العلم، فصار ينبغي على العلماء البحث عن أساليب يمكن من خلالها تسهيل تقديم المعلومات إلى الناس على اختلاف فئاتهم.
كان الشعر خيارًا مثاليًا لذلك بسبب وعي العلماء بسهولة حفظ الشعر لدى متلقين هذا النمط الكتابي حيث يمثل الوزن الشعري طريقة أسهل من الكلام النثري العادي، وقد ظهرت نماذج كثيرةٌ من الشعر التعليمي لعلَّ أسهلها حتى وقتنا الحالي هو ألفية ابن مالك في النحو.
خصائص الشعر التعليمي في العصر العباسي الثاني
نشأ الشعر التعليمي في الأصل لتسهيل حصول الأفراد على العلم، وتسهيل حفظهم له وقد امتاز هذا الشعر عن غيره بمجموعة من الخصائص نذكر منها الآتي:
تكثيف العبارات
ويقصد بذلك تلخيص موضوع كبير في عبارات قليلة، فالشعر التعليمي لا يقوم على الإسهاب والإطالة، بل يعتمد على الاختصار و الإيجاز فكلَّما قلَّت الكلمات والعبارات كان حفظها وتلقيها أكثر سهولة، والشعر التعليمي كان يلخص موضوعاً علمياً يحتاج ساعات من الشرح في بضعة أبيات يسهل حفظها وتناقلها وتعليمها، ولعل هذه هي أبرز خصائص هذا الشعر على الإطلاق.
تنوع الموضوعات
تطرَّق الشعر التعليمي إلى موضوعات كثيرة، فكتب شعر في النحو والصرف والعروض وكتب شعر في علم الفلك وفي التاريخ والأنساب وفي المواضيع العلمية وعلوم الفقه والحديث وغيرها من العلوم الأخرى، وهذا إن دلَّ على شيء إنما يدل على ثقافة هؤلاء الشعراء ورحابة صدرهم وسعة معرفتهم في شتى العلوم والآداب.
الخطاب العقلي
فالشعر التعليمي في أصله قائم على خطاب المنطق والعقل لا على خطاب العاطفة والشعور، ولعل الفكرة في هذا قادمة من كونه شعراً مصنوعاً متكلّفاً، لا شعراً قادماً من سجية شعرية، فالشاعر يصنع هذا الشعر بالتفكير والتحليل والتنميق.
الشكل الشعري
اتخذ الشكل الشعري للمنظومات الشعرية التعليمية أنماطًا محدودة، فهي كانت تنظم إما على شكل أرجوزة تتحد القافية في كل شطر منها، أو على شكل مزدوجات شعرية يمتلك كل بيتين منها قافيةً واحدة، أو تنظم على الشكل المعتاد للقصيدة المعروفة بأبحرها وأوزانها.
نموذج على الشعر التعليمي في العصر العباسي الثاني
من نماذج الشعر التعليمي قصيدة نظمها ابن دريد الأزدي وهي ذات محتوى لغوي قصد فيها تضمين أكبر عدد من الكلمات التي تنتهي بألف مقصورة يقول فيها:
يــا ظَــبــيَــةً أَشــبَه شَـيـءٍ بِـالمَهـا
- تَـرعـى الخُـزامـى بَينَ أَشجارِ النَقا
إِمّــــا تَـــرَي رَأسِـــيَ حـــاكـــي لَونُهُ
- طُــرَّةَ صُــبــحٍ تَــحــتَ أَذيــالِ الدُجــى
وَاِشــتَــعَــلَ المُــبــيَــضُّ فــي مُـسـوَدِّهِ
- مِـثـلَ اِشتِعالِ النارِ في جَزلِ الغَضى
فَــكــانَ كَــاللَيــلِ البَهـيـمِ حَـلَّ فـي
- أَرجـــائِهِ ضَـــوءُ صَــبــاحٍ فَــاِنــجَــلى
وَغـــاضَ مـــاءَ شِـــرَّتـــي دَهـــرٌرَمـــى
- خَــواطِــرَ القَــلبِ بِــتَـبـريـحِ الجَـوى
وَآضَ رَوضُ اللَهـــوِ يَـــبــســاً ذاوِيــاً
- مِـن بَـعـدِ مـا قَـد كـانَ مَجّاجَ الثَرى
وَضَــــرَّمَ النَــــأيُ المُــــشِـــتُّ جَـــذوَةً
- مـا تَـأتَـلي تَـسـفَـعُ أَثـنـاءَ الحَـشـا
وَاِتَّخــَذَ التَــسـهـيـدُ عَـيـنـي مَـألَفـاً
- لَمّــا جـفـا أَجـفـانَهـا طَـيـفُ الكَـرى
فَـــكُـــلُّ مـــا لاقَـــيــتُهُ مُــغــتَــفَــرٌ
- فــي جَــنـبِ مـا أَسـأَرَهُ شَـحـطُ النَـوى
لَو لابَــسَ الصَـخـرَ الأَصَـمَّ بَـعـضُ مـا
- يَــلقــاهُ قَـلبـي فَـضَّ أَصـلادَ الصَـفـا