الحياة الأدبية والثقافية في العصر العباسي الأول
الحياة الثقافية والأدبية في العصر العباسي الأول
يعدُّ العصر العباسي الأول أكثر عصور الأمة العربي ازدهارًا وتطورًا لا سيما في مناحي الحياة الثقافية والفنية والأدبيّة، فقد توسّعت الدولة العباسية وثبتت أركان ملكها، وحفّزت التعلم والتعليم، ومنحت الشعراء والأدباء عطايا وفيرة، كما أنشئت مكتبة بيت الحكمة التي شكلت أيقونة التطور والازدهار المعرفي والعلمي.
وقد كانت الدولة العباسية تسعى لاستمداد العلوم والمعارف من الثقافات الأخرى، فنرى أن الخلفاء رصدوا جوائز كبيرة لمن يترجم كتبًا عن لغات أخرى في أي علم من علوم المعرفة، ونرى الكتاب والمترجمين يخرجون كثيرًا من الكتب المترجمة عن الحضارات الرومانية والفارسية والهندية والحضارة اليونانية ، فكانت الدولة العباسية وريثة معارف هذه الأمم.
وقد أشرف الدولة العباسية على إنشاء الجوامع التي كانت تضم بداخلها حلقات العلم والتعليم، فكانت الجوامع هي مدارس الصبية التي يتعلمون فيها شتى أنواع العلوم والمعارف، فكانت كل حلقة تختص بعلم من العلوم، وكان الطالب ينتقل من حلقة إلى حلقة حسب رغبته، لكنه في النهاية يمر بهذه الحلقات كلها، ويتعلم عن شيوخه مختلف العلوم، ومن ثم يتخصص بعلم بعينه.
التجديد في مناحي الشعر في العصر العباسي الأول
أمّا الشعر والشعراء فقد كان لهم في تلك الفترة الحظوة والعناية من الدولة، فالشاعر المجيد يُقرّب من الخليفة ووزرائه، ليقدّم لهم أفضل وأجود الأشعار التي تليق بهم، ونتيجة للتطور الثقافي والفكري في هذا العصر نجد أنّ الشعراء اتجهوا إلى التجديد في أشعارهم وأساليبهم.
فنراهم يتجهون نحو التجديد في المعاني والموضوعات، فقد تخلوا عن الغزل العذري العفيف، وعن المديح المخصوص للسيد والحاكم، حتى نراهم يتغزلون غزلا حسّيًا فاضحًا، ويمتدحون حتى الحيوانات ويرثونها، ونراهم يصفون القصور والبساتين والمدن، بعد أن كانوا مغرقين في وصف الصحراء.
بالإضافة إلى أنّهم سعوا للتخلص من قوانين القصيدة العربية القديمة، من مقدمة طللية، ووصف للناقة، والحديث عن الرحلة ومشقاتها، فاتجهوا لاستعمال المقدمة الخمرية كما هو الحال عند أبي نواس، الذي نفر من تقاليد العرب في الوقوف على الأطلال، بالإضافة إلى استعمال الألفاظ السهلة المتناولة، والابتعاد عن المعجم اللفظي المستخدم في الشعر القديم لعدم مناسبته العصر، وابتعاد العرب عن حياة الصحراء.
التجديد في الكتابة الفنية النثرية الفنية
شهد العصر العباسي ظهور غير قليل من الكتّاب والمؤلفين، الذين لم يتجهوا صوب الشعر، وانتهجوا الكتابة الفنية النثرية، فنرى عبد الله بن المقفع أحد رواد هذه الحركة التجديدية الثقافية، إذ ألف عددًا من الأعمال النثرية ذات الطابع المتين، والصبغة الجديدة.
وقد ترجم كتاب كليلة ودمنة ، وقيل أنّه ترجم كتاب ألف ليلة وليلة، وألف رسالة الصحابة، والأدب الصغير والأدب الكبير، الذي عالج فيهما الأسلوب والطريقة في مخاطبة الأصدقاء وفي مخاطبة الحكام والسلاطين، فكان مثل هذا التأليف غريبًا مستحدثًا عند العرب.
ومن ثمّ ظهرت التأليفات ذات الطابع الفني كالرسائل الشخصية والديوانية، وظهر أدب الدعاء والمناجاة والوصايا، وصار للكتّاب قيمة كبيرة في الدولة تعادل قيمة الوزراء وقادة الدولة، فكان الكاتب لسان الخليفة، الذي يعطيه روؤس الأقلام والأفكار المهمة، فيعيد الكاتب نسجها وبناءها بأسلوب أدبي متين.
المؤلفات الفكرية في العصر العباسي الأول
ظهر في هذا العصر غير قليل من المؤلفات الفكرية والعقلية التي أثرت المكتبة العربية والعالمية، وقدمت نتاجًا وافرًا في كثير من العلوم الأدبية والنقدية والبلاغية والعلمية أيضًا، فنرى أن العلماء اتجهوا لدراسة القرآن الكريم، محاولين تفسيره وإعرابه والكشف عن مواطن الإعجاز الكلامي فيه، ونراهم يدونون الحديث الشرف، ويفسرونه، ويقسمون الأحاديث إلى مراتب حسب درجة صحتها.
وقد ظهرت كتب تُعنى بالجانب التقعيدي للغة، فقد أدرك العرب أهمية الدراسات اللغوية، فبادروا لوضع قواعد نحوية مطردة تضبط الكلام العربي وآلية نطقه وكتابته، ومن ثمّ توجهوا للدرس البلاغي للوقوف على جماليات اللغة من توظيف للصورة الفنية، ومن ثمّ نجد الخليل بن أحمد يضع علم العروض الذي يضبط الشعر العربي ويقومه.
ونرى أن من التأليفات التي أثرت الثقافة العربية اتجهت نحو الدراسات النقدية، فنجد غير قليل من المؤلفات التي اهتمت ببدراسة مثل هذه القضايا، مثل كتاب البيان والتبيين، وطبقات فحول الشعراء، والكامل في اللغة والأدب، وغيرها من كتب اتجهت لمعالجة القضايا النقدية التي شاعت في تلك الفترة، العصر العباسي شهد ضروبًا من المحاورات والمناظرات والأخذ والرد في القضايا الفكرية.