الاتجاهات النظرية في الأنثروبولوجيا
علم الأنثروبولوجيا
الأنثروبولوجيا هو العلم الذي يهتم بدراسة البشر وكل ما يتعلق بالتجربة الإنسانية وتطورها عبر التاريخ بما في ذلك السمات البيولوجية والجوانب الاجتماعية مثل؛ اللغة، والثقافة ، والسياسة، والعلاقات الاجتماعية، والتكيف مع البيئات المختلفة، وحتى أسلوب العيش والعادات والتقاليد والاحتفالات وغيرها من جوانب حياة الإنسان، الأمر الذي يساعد البشر على فهم أنفسهم وفهم بعضهم البعض.
الاتجاهات النظرية في علم الأنثروبولوجيا
تُساعد النظرية في تحليل وفهم المواضيع المختلفة حيث توجه تفكير الناس للعمل ضمن نظام معين مما يساعدهم على التنبؤ، والتفسير، ووضع التعديلات اللازمة وذلك ضمن إطار نظري موحد، لذلك نجد أن هناك عدة اتجاهات نظرية في الأنثروبولوجيا تساعد في فهم وتفسير وجهات النظر المختلفة حول ثقافة وتطور الإنسان والمجتمع.
الاتجاه التطوري
يُعد إدوارد تايلور (1832-1917) أحد أهم رواد علم الأنثروبولوجيا الثقافية حيث بدأ في نشر نظرياته في عام 1871، وكان أول أستاذ في مجال الأنثروبولوجيا في جامعة أكسفورد عام 1896، ومن المفاهيم الرئيسية التي تناولها هو الروحانية حيث اعتبر أنّ الروحانية هي أصل جميع الأديان، كما افترض تايلور وجود وحدة نفسية بين البشر، وأنّ تطور المجتمعات يحدث ضمن مسار تطوري واحد ابتداءً من المرحلة البرية البدائية، مرورًا بالتوحش والهمجية، ثم المرحلة البربرية، وانتهاءً بالحضارة.
وقد حدد هذه المراحل بناءً على أنّ الروحانية والسحر هما أساس المراحل الأولى للتطور الفكري والمجتمعي، ومن المشاكل التي واجهها هذا الاتجاه هو عدم وجود خبرة عملية فالبيانات المتاحة لا تدعم النظريات إلاَ أنه ساهم في تحدي الأفكار العنصرية والعرقية والذي مهد الطريق للأسلوب المقارن، بالإضافة إلى تعريف الثقافة الأول في عام 1871 على أنها الكلية المعقدة والتي تشتمل على المعرفة ، والاعتقادات، والقانون، والفن، والأخلاق، وأي عادات وقدرات أخرى قد يكتسبها الإنسان كفرد في المجتمع.
الاتجاه الانتشاري
كان ويلهلم شميدت (1868-1954) مسؤولاً عن تدريب عدد كبير من المبشرين الكاثوليك، ومن الاستنتاجات التي توصل إليها خلال بحثه المؤلف من 12 مجلدًا نظرية التوحيد البدائي على أنه أصل لكل الأديان وليس الروحانية أو الشرك، كما افترض أنّ الانتشار هو آلية التغيير وأن تطور المجتمعات ليس أحادي الاتجاه، ومن الانتقادات التي واجهت الاتجاه الانتشاري هو عدم الاعتراف بالابتكار البشري والتكيف مع البيئة.
الاتجاه التاريخي
برز هذا الاتجاه على يد فرانز بواس الذي لُقب بأبي الأنثروبولوجيا الأمريكية وقد انتقد الاتجاه التطوري حيث افترض أنّ الثقافة عبارة عن مجموعة من الأفكار التي يتشاركها مجموعة من الناس مما يعني أنّ لكل مجتمع تطوره التاريخي وثقافته الخاصة به، ومن خلال العمل الميداني استطاع وصف ثقافات معينة دون إعطاء نظريات عامة تنطبق على كل المجتمعات، كما وجد فرانز أنّ كل فرد هو عضو أساسي في مجتمعه لذلك اعتمد في عمله على جمع البيانات من أفراد المجتمع والقيام بالتحليل الثقافي بناءً على هذه البيانات القيمة، ومن أهم إنجازات هذا الاتجاه هو استبعاد مفهوم العنصرية من الأنثروبولوجيا.
الاتجاه البنائي الوظيفي
لعب إميل دوركهايم (1858-1917) دوراً كبيراً في علم الاجتماع والأنثروبولوجيا، وقد بحث في الأسباب التي تؤدي إلى تماسك المجتمع وتحافظ على التضامن الاجتماعي بالإضافة إلى دور الفرد في دعم المجتمع، وقد نشر العديد من الأعمال المهمة والتي ساعدته في تكوين نفسه مثل؛ "تقسيم العمل في المجتمع" 1893، و"الانتحار" 1897، و"الأشكال الأساسية للحياة الدينية" 1915.
وبعد وفاته استمر على نهجه العديد من علماء الأنثروبولوجيا في بريطانيا وأمريكا ومن أهمهم راد كليف براون (1881-1955)، وقد اهتم دوركهايم في دراسة الحقائق الاجتماعية فلا يتم إنشاء المجتمع لدعم الفرد بل افترض أنّ الفرد يقع على عاتقه مسؤولية دعم احتياجات المجتمع، ومن الأمور التي ساهم فيها هو تحديد الوظائف الاجتماعية للدين، حيث اعتبر أنّ المعتقدات الدينية والمقدسات التي يجب احترامها وعدم المساس بها حقيقة اجتماعية وأنها تؤثر بشكل إيجابي على المجتمع كما اعتبر أن الدين إحدى الحقائق الاجتماعية المستخلصة من ظروف المجتمع وله دور كبير في التضامن الاجتماعي وتماسك الأفراد.
الاتجاه الوظيفي
اهتم برونيسلاف مالينوفسكي (1884-1942) في نظريته الوظيفية بالفرد وبدراسة كيفية دعم المجتمع له وقد ساهم في دعم دور العمل الميداني وساعد في فهم الوظائف الاجتماعية للدين، وقام بتقسيم احتياجات الأفراد وكيفية تلبية المجتمع لها إلى ثلاثة أقسام وهي كالتالي:
- الاحتياجات الفردية: وهي السلام، والتغذية، والإنجاب ويلبي المجتمع هذه الاحتياجات بتوفير الغذاء، والزواج، والدفاع.
- الاحتياجات الأساسية: وتشتمل على تجديد الموظفين ومواثيق السلوك ويقوم المجتمع بدوره في توفير أنظمة التعليم والرقابة الاجتماعية.
- الاحتياجات المتكاملة: وتشتمل على الوسائل العقلية، والعاطفية، والعملية والتي تتحكم بمصير الفرد ويقوم المجتمع بتوفير السحر، والدين، والعلم في ضوء تلبية هذه الاحتياجات.
وقد وُجدت بعض التناقضات ومنها:
- إن ممارسة الطقوس الدينية تخلق حالة عاطفية بالنسبة لدوركهايم بينما يجد مالينوفسكي أنّ الطقوس الدينية تقلل من الحالة العاطفية.
- الدين بالنسبة لفرويد يعكس انتصاراً غير منطقي للخير النفسي على الشر، بينما يجد مالينوفسكي أنّ الدين ناتج عن القلق والمخاوف النفسية، أما دوركهايم فيعتبر الدين انعكاساً للنظام والتضامن الاجتماعي.
- يجد تايلور أنّ اللجوء للسحر لفهم الأسباب أمراً خاطئاً، بينما يعتبر دوركهايم أنّ السحر وسيلة للتحكم في المجتمع، أما مالينوفسكي فيجد أن السحر طريقة للتخلص من القلق ومعرفة الإجراءات الصحيحة.
الاتجاه البنيوي
يقوم الاتجاه البنيوي على فكرة أنّ تكوين السلوك البشري والثقافة يتم من خلال هياكل عميقة تتحكم بتنظيمها بعض العناصر مثل؛ اللغة، والطقوس، واللباس، وغيرها، ومن أهم البنويين المعاصرين كلود ليفي شتراوس (1908-2009) ومن أعماله؛ "البنى الأولية للقرابة" 1949، و"العقل المتوحش" 1966، و"النيئ والمطبوخ" 1969، وقد قام بتحديد المبادئ الأساسية لهذا الاتجاه والتي تنص على كيفية ترابط الأنظمة الثقافية، وأنّ هناك واقعًا خفيًا يمكن من خلاله تفسير الحياة الاجتماعية والثقافية، كما ساهم في تحديد هياكل التفكير والتي افترض أنها تعتمد على مبادئ ثنائية وحدد أهميتها في تنظيم الناس لتجاربهم وكيفية رؤيتهم للعالم.
الاتجاه المادي الثقافي
يُعد هذا الاتجاه من أهم المناهج لدراسة وتحليل المجتمعات البشرية، فيدعم فكرة أن السلوك البشري يتأثر بالعوامل المادية، وكان كارل ماركس وفريدريك إنجلز من أوائل من عملوا على المذهب المادي حيث وضعا نموذجًا لدراسة تطور المجتمعات بناءً على المفهوم المادي، ووفقاً للاتجاه المادي الثقافي تم تقسيم الأنظمة الاجتماعية إلى ثلاثة أقسام وهي؛ البنية التحتية والتي تُعد اللبنة الأساسية حيث يحدث فيها التفاعل بين البيئة والثقافة، والهيكل وهو الذي يُشكل النظام الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي للمجتمع، والبنية الفوقية والتي يجد الماديون الثقافيون أنها تشير إلى الأيديولوجيا والرمزية.
اتجاه الثقافة والشخصية
يستند هذا الاتجاه إلى الفكرة التي يدعمها إدوارد سابير والتي تشير إلى وجود علاقة بين العادات المكتسبة في مرحلة الطفولة وسلوكيات البشر في المجتمعات المختلفة، وأن هناك علاقة بين الثقافة والطبيعة البشرية، بالإضافة إلى وجود علاقة بين الثقافة وشخصية الفرد ومن هنا اقترح علماء الأنثروبولوجيا دراسة السمات الشخصية للأفراد مما يساعد على فهم ثقافة المجتمع.
اتجاه ما بعد الحداثة
ظهر هذا المنهج في الثمانينيات لتفسير فترة تاريخية تتعلق بالحرب الباردة والاضطرابات الاجتماعية في مختلف أنحاء العالم، ويتحدى هذا المنهج الطبيعة المسيطرة والمتنمرة للعقل والعلم كما يدعم فكرة أنه من الصعب تكوين معرفة محايدة عن الثقافات الأخرى وذلك لأن الشخص يرى العالم من وجهة نظره وفقاً لخلفيته الثقافية ومرجعيته الاجتماعية والشخصية.