ارتباط الأخلاق بالعقيدة
ارتباط العقيدة بالأخلاق
تُعَدُّ العقيدة المنبع الرَّئيسي لكلِّ ما يَصدر لاحقاً عن الإنسان من أفعالٍ وتصرّفات؛ فالإنسان الذي يَمتلك عقيدة الحقِّ التي تدعوه إلى الصِّدق، والأخلاق النَّبيلة، والعفو، والتسامح، والأمانة، لا تكون تصرُّفاته بخلاف ذلك، إذ إنَّ الأخلاق والآداب التي يتحلَّى بها المسلم في حياته وتعاملاته مع الآخرين هي التَّجسيد الفعلي والحقيقي لما يُؤمن به من عقائدَ وأفكارٍ دينيَّة، والدَّليل الفعليُّ على صِدق إيمانه، فلا انفكاك بين العقيدة والأخلاق، بل هُما يسيران جنباً إلى جنب، ويدعم كلٌّ منهما الآخر، وتُعَدُّ العقيدة بمثابة المحرِّك الرَّئيسي والمُحفِّز الأول للأخلاق، كما أنَّها الرَّادع الأول للمسلم والمانع الأقوى له والذي يَصرفه عن الشَّهوات المُحرَّمة، والأفعال الخاطئة. ويتجلَّى دور العقيدة وانعكاسها على الأخلاق في كل جانبٍ من جوانب حياة المسلم اليوميَّة مع أهله وجيرانه وأصدقائه، ومع من يخالفونه الرَّأي، بل حتى مع أعدائه إن وُجدوا.
إنَّ الأخلاق للعقيدة كالثِّمار للشجرة، فثمرة العقيدة ونتاجها هو خُلقٌ قويمٌ وتصرّفات نبيلة، وهذا مصداقاً لقول النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (أكملُ المؤمنين إيمانًا أحسنُهم خُلُقًا)، وقد بيَّن شيخ الإسلام ابن تيمية علاقة الأخلاق بالعقيدة، فقال إنَّ لفظ الإيمان عندما يُطلق بدون قيود في القرآن الكريم أو في السُّنة النَّبوية يُراد به كلُّ أعمال البرِّ والتَّقوى، فقد وَرد في قول الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (الإِيمانُ بضْعٌ وسَبْعُونَ، أوْ بضْعٌ وسِتُّونَ، شُعْبَةً، فأفْضَلُها قَوْلُ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ، وأَدْناها إماطَةُ الأذَى عَنِ الطَّرِيقِ، والْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإيمانِ)، ويظهر من خلال هذا الحديث أنَّ اسم الإيمان يَدخل فيه أمران:
- الأوَّل: عبادة القلب بما تشتمله من إيمانٍ بالله وحده وعدم الإشراك به، والتَّصديق برسالة محمَّد -صلَّى الله عليه وسلَّم-، والخَشية من الله -سبحانه وتعالى- والتَّوكل عليه وإخلاص العمل له وحده.
- الثاني: عبادة متعلقة بالبدن والتي لا يُتصوَّر أن تتخلّف عمَّا في القلب؛ فينتج عن ذلك كلُّ الأخلاق الحميدة التي يعيشها المسلم في شتّى جوانب حياته، والتي تصل إلى إزالة الأذى عن الطَّريق وهي أدنى درجات الإيمان.
وهناك فرقٌ بين الدَّور الفاعل والإيجابي للأخلاق المنبثقة عن العقيدة، وبين دَور القوانين الوَضعيَّة والعقوبات المالية، إذ إنَّ الأول محرِّكه داخليٌّ ومنبعه الإيمان والرَّقابة الداخلية، والآخر نابعٌ من الخوف ومن مراقبة الآخرين، ومِنْ ترتُّب العقوبة على الشَّخص. وممَّا يُعطي العقيدة قوةً أكبر من قوة القوانين الوضعيَّة على سُلوك المسلم وأخلاقياته؛ أنَّها تربط ما بين الأخلاق التي يتحلَّى بها المسلم في حياته اليومية، وبين المَثوبة الأُخروية التي سيحصل عليها في الآخرة، وهذا لا شكَّ أنَّه من أعظم الدَّوافع وأشدُّ الحوافز للمسلم، كما أنَّه من أحصن الدُّروع التي تَقيه من الوقوع في الأخلاق السَّيئة والتصرفات الرَّذيلة، وهذا بالضَّرورة ينعكس لاحقاً ليس فقط على حياة المسلم الخاصَّة، بل على المجتمع كلِّه؛ فإذا التزم كُلُّ مسلمٍ بالأخلاق الحميدة، وكانت مُتناسقةً مع ما يؤمن به من عقائد، سنصل بلا ريب إلى مجتمعٍ آمنٍ متماسكٍ، يكاد يخلو من الجرائم ومُسبّباتها، مجتمع فاضل يَحثُّ بعضه بعضاً على الخير، ويَتناصح فيما بينه، ويتعاون على ترك السُّوء.
أمثلة على ارتباط العقيدة بالأخلاق
أمثلة على ارتباط العقيدة بالأخلاق من القرآن الكريم
ترتبط الأخلاق بالعقيدة ارتباطاً وثيقاً، وقد ظهر هذا الارتباط في مواضع كثيرة من القرآن الكريم وآياته، والتي تبيِّن أثر العقيدة في الأخلاق الفاضلة، والتي دعا إليها القرآن الكريم، ونذكر منها ما يأتي:
- التحلِّي بالصَّبر: حيث ورد خُلُقُ الصَّبر ومشتقاته والحثُّ عليه والتَّرغيب فيه في أكثر من موضع في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله -تعالى-: (ما عِندَكُم يَنفَدُ وَما عِندَ اللَّـهِ باقٍ وَلَنَجزِيَنَّ الَّذينَ صَبَروا أَجرَهُم بِأَحسَنِ ما كانوا يَعمَلونَ). وقوله -تعالى-: (أُولَـئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ).
- الطَّاعة: إذ إنَّ المسلم مأمورٌ بالطَّاعة، سواءً كانت لله -سبحانه وتعالى- أو لرسوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-، كما يدخل فيها طاعة الوالدين، ومن الآيات التي حثَّت على هذا الخُلق قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلً).
- برُّ الوالدين : أمرنا الله -سبحانه وتعالى- ببرِّ الوالدين والإحسان إليهما، وقد ورد ذلك في العديد من الآيات مثل قوله -تعالى-: (وَقَضى رَبُّكَ أَلّا تَعبُدوا إِلّا إِيّاهُ وَبِالوالِدَينِ إِحسانًا إِمّا يَبلُغَنَّ عِندَكَ الكِبَرَ أَحَدُهُما أَو كِلاهُما فَلا تَقُل لَهُما أُفٍّ وَلا تَنهَرهُما وَقُل لَهُما قَولًا كَريمًا* وَاخفِض لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحمَةِ وَقُل رَبِّ ارحَمهُما كَما رَبَّياني صَغيرًا).
- الحفاظ على النَّفس وحمايتها: حيث إنَّ الله -سبحانه وتعالى- أمر الإنسان بأن يُحافظ على نفسه، ويَحميها من كلِّ ما يؤدِّي إلى إيقاع الضَّرر بها، ومن ذلك كان تحريم قتل نفس الغير بدون حقٍّ، كما جاء في قوله -تعالى-: (وَلا تَقتُلُوا النَّفسَ الَّتي حَرَّمَ اللَّـهُ إِلّا بِالحَقِّ)، وتحريم قتل الإنسان لنفسه ، كما في قوله -تعالى-: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّـهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا).
- تجنُّب الفواحش: فقد نهى الإسلام عن الفواحش بل حتى عن مجرد الاقتراب منها، لِما في ذلك من إضعاف للنَّفس وفتح بابٍ للزلل والخطأ، وقد ورد النَّهي عن الفواحش في الكثير من الآيات، منها قوله -تعالى-: (وَلا تَقرَبُوا الفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنها وَما بَطَنَ).
- حماية اليتيم : دعا الإسلام إلى حماية حقوق الضُّعفاء، ومن أولئك الأيتام، فقد حذَّر من أكل حقوقهم وأموالهم، قال الله -تعالى-: (وَلا تَقرَبوا مالَ اليَتيمِ إِلّا بِالَّتي هِيَ أَحسَنُ حَتّى يَبلُغَ أَشُدَّهُ).
- الأمانة والعدالة في المُعاملة: دعا الإسلام المسلمين إلى التحلّي بخُلق الأمانة في جميع مناحي الحياة، ومنه قوله -تعالى-: (وَيا قَومِ أَوفُوا المِكيالَ وَالميزانَ بِالقِسطِ وَلا تَبخَسُوا النّاسَ أَشياءَهُم وَلا تَعثَوا فِي الأَرضِ مُفسِدينَ)، كما أمر بالعدل والإنصاف في التَّعامل مع الغير حتى وإن كان عدوّاً، فقد جاء في قوله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّـهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّـهَ إِنَّ اللَّـهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ).
- الوفاء بالعهد: أمر الله -سبحانه وتعالى- بالوفاء بالعهود ونهى عن نقضها، كما جاء في قوله -تعالى-: (وَأَوفوا بِالعَهدِ إِنَّ العَهدَ كانَ مَسئولًا).
- العدل والإحسان: فقد أمر الله -سبحانه وتعالى- عباده بالعدل والإحسان في كلِّ شيء، ونهى عن الظُّلم والمُنكَر؛ فقد جاء في قوله -تعالى-: (إِنَّ اللَّـهَ يَأمُرُ بِالعَدلِ وَالإِحسانِ وَإيتاءِ ذِي القُربى وَيَنهى عَنِ الفَحشاءِ وَالمُنكَرِ وَالبَغيِ يَعِظُكُم لَعَلَّكُم تَذَكَّرونَ).
أمثلة على ارتباط العقيدة بالأخلاق من السنة النبوية
حثَّ النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- المسلمين على التَّحلِّي بالأخلاق الحميدة، وبيَّن لهم التَّرابط القوي بين العقيدة والأخلاق، وأنَّ العقيدة الصَّادقة لا بدَّ أن تنعكس على خُلق المسلم وفعله، ومن الأحاديث التي ربطت بين العقيدة والأخلاق وحثَّت عليها في آنٍ واحدٍ قوله -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (مَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فلا يُؤْذِ جارَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيُكْرِمْ ضَيْفَهُ، ومَن كانَ يُؤْمِنُ باللَّهِ واليَومِ الآخِرِ فَلْيَقُلْ خَيْرًا أوْ لِيَصْمُتْ)، فيظهر من كلام المُصطفى -صلَّى الله عليه وسلَّم- الرَّابط الوثيق بين الإيمان والأخلاق المتعدِّدة في مختلف شؤون الحياة، والتي تشمل إكرام الضَّيف، والإحسان إلى الجار ، بل حتى السُّكوت عندما لا يجد المسلم خيراً ليتحدَّث فيه، ويُبيّن أنَّ كلّ هذه التَّصرفات الحسنة والأخلاق الحميدة لها منبعٌ واحدٌ وأصلٌ مشترك؛ ألا وهو الإيمان بالله ورسوله.
ويُعدُّ التَّمسك بالأخلاق الفاضلة أحد العبادات المُهمَّة في الإسلام، وبمجرد التمسك فيها وتطبيقها يبلُغ المسلم مَبلغ الصَّائم القائم، كما جاء في قول الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (إن المؤمنَ لَيُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصائمِ القائمِ)، ويَحظى المسلم الخلُوق يوم القيامة بشرف القُرب من الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم- كما جاء في الحديث الصَّحيح: (إنَّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكُم منِّي مجلسًا يومَ القيامةِ أحاسنَكُم أخلاقًا)، وتكون أخلاقه الحميدة من أثقل ما يُوضع في ميزانه يوم القيامة، كما قال الرَّسول -صلَّى الله عليه وسلَّم-: (ما مِن شيءٍ أثقلٌ في الميزانِ مِن حُسْنِ الخُلُقِ).
وكلَّما حسُنت عبادة المسلم انعكس ذلك على أخلاقه وتعاملاته؛ فالصَّلاة مثلاً تُعين على النِّظام والالتزم بالقوانين العامَّة، والصِّيام يساعد على تدريب النَّفس على الصَّبر والتَّحمُّل والإحساس بالآخرين والتعاطف معهم، والزَّكاة تُطهِّر نفس المسلم من الشُّحِّ والبخل، وتدرِّبه على البذل والعطاء، والحجُّ دورةٌ تدريبيةٌ مكثَّفةٌ في الصَّبر، وترك الجِدال والسُّباب وسائر أنواع الفُحش في القول والعمل، لِيَخرج منه المسلم بعدها إنساناً جديداً كيوم ولدته أمه.
وبيَّن النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- للمسلمين بأنَّ أهمَّ غايات بعثته للعالمين هي الاعتناء بالأخلاق والدَّعوة إليها، كما جاء في الحديث الشريف: (بُعِثتُ لأُتَمِّمَ صالِحَ الأخْلاقِ)، و كانت حياة النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- كلِّها مِصداقاً لهذا الحديث وتطبيقاً له بالقول والفعل وفي جميع مناحي الحياة، ممَّا كان له أثرٌ إيجابيٌّ في نشر الدَّعوة الإسلامية إلى النَّاس من حوله، ومن ثَمَّ إلى شتَّى بقاع الأرض، وقد بيَّن الله -سبحانه وتعالى- أخلاق النَّبي -صلَّى الله عليه وسلَّم- وعلوِّ منزلتها في القرآن الكريم، ومن ذلك قوله -تعالى-: (وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ)، ومن ثمَّ أمرنا -سبحانه وتعالى- أن نقتدي بأثره، وأن نهتدي بهديه، قال -تعالى-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا)، وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ أخلاق الإسلام تتَّصف بالثِّبات؛ فهي لا تختلف بإختلاف الزمان والمكان، بل هي صالحةٌ لِكلِّ زمانٍ ولكلِّ مكان.