أنواع النثر في العصر الجاهلي
الخطابة
تُعد الخطابة من أبرز الفنون النثرية في الأدب العربي عامة، وفي الأدب الجاهلي خاصة، وتشترك الخطابة مع الشعر في توظيف الخيال، وتتميز بالبلاغة، وكانت تُعد مظهرًا من مظاهر الحرية، لارتباطها بالفروسية، وتتميز الخطابة بالتلقائية فالخطيب كان يخطب في الأسواق دون تحضير مسبق أو تكلف. كما كانت تتسم بالإيجاز والعمق.
استخِدمت الخطابة كطريقة للتأثير والإقناع، وتميزت بالأسلوب المنمق واللفظ الحسن، والعبارات القوية الرصينة، وتحتوي على السجع في بعض الأحيان، وفيها حكمة بليغة، وأهم المعايير التي يجب توافرها في الخطيب، أنْ يكون مثقفًا، وبشوش الوجه، ولمّاحًا، وذا صوتٍ جهور، وقادرًا على إقناع المستمعين بمنطق سليم.
ومن أشهر الخطباء في العصر الجاهلي الآتية أسماؤهم:
- قس بن ساعدة الإزدي.
- عمرو بن كلثوم التغلبي.
- أكثم بن صبقى التميمي.
- الحارث بن عباد البكري.
- قيس بن زهير العبسي.
- عمرو بن معد يكرب الزبيدي.
ومن الأمثلة على فن الخطابة في العصر الجاهلي خطبة قس بن ساعدة الإيادي، التي ألقاها في سوق عكاظ، والتي يقول فيها:
"أيها الناس، سامعوا وعوا، إنّه من عاش مات، ومن مات فات، وكل ما هو آت آت ليل داج، ونهار ساج ، وسماء ذات أبراج، ونجوم تزهر، وبحار تزخر، وجبال مرساة، وأرض مدحاة، وأنـهار مجراة، إنّ فى السماء لخبرًا ، وإنّ فى الأرض لعبرًا ما بال النـاس يذهبون ولا يرجعون؟ أرضوا فأقاموا؟ أم تركوا فناموا؟ معشر إياد، أين الآباء والأجداد، وأبن الفراعنة الشداد؟ ألم يكونوا أكثر منكم مالًا وأطول آجالًا ؟ طحنهم الدهر بكلكله، ومزقهم بتطاوله".
الوصايا
الوصية هي من أنواع النثر الذي يهدف إلى النصح والإرشاد والتوجيه، وهي قول بليغ مؤثر، يتخلله حثًّا على السلوك النافع، وتوجِدُ الوصية حبًا في من توجه له الوصية، ورغبة في رفعة شأنه، وجلب الخير له وعادة تكون من أولياء الأمور، مثل وصايا الأم لأبنائها عند الشدائد، وهي ثمرة الخبرة الطويلة، والملاحظة الدقيقة، والتفكير السليم.
ومن أهم الأمثلة على الوصايا، وصية عمر بن كلثوم عندما اقترب أجله عن عمر ناهز المئة وخمسين عامًا، التي أوصى أبناءه بها بضرورة التحلي بالأخلاق الحميدة.
الأمثال
يعرف المثل أنّه قولٌ سائرٌ بين عامة الناس، والقول لا يُعد مثلًا إلا بشرط ذياعه، وانتشاره في الآفاق، ويُعد التشبيه أساس المثل، فتشابه الحالات هو أساس قول المثل، واعتنى العرب بأمثالهم، لكنها لم تكن مدونةً، بل حفظوها بقلوبهم، وتناقلوها مشافهةً، وضُمنت في الأعمال النثرية اللاحقة، كما أنّ الشعراء عملوا على توظيفها في أشعارهم، وتداولها الناس في أغلب أقاصيصهم.
وتتسم الأمثال العربية في العصر الجاهلي بدلالاتها اللغوية وسهولتها، وقدرتها الكبيرة على التعبير عن الطابع الإيحائي، مما يجعل قائل المثل شخصًا لماحًا، وتدل الأمثال على سعة اللغة العربية، ومدى ثرائها، وقدرتها على التعبير عن خلجات النفس، ومن أهم خصائص الأمثال العربية في العصر الجاهلي تضمينها الموسيقا، والنغم، والإيجاز.
ومن أهم الأمثلة على الأمثال الجاهلية، قول: "إنّك لا تجنى من الشوك العنب"، والذي يعني أنّه من المستحيل أنْ تجد عند ذي المنبت السيء أمرًا حسنًا، وقول: "قبل الرمى يراش السهم"، وقصد به أنْ يضرب المرء للاستعداد للأمر قبل حصوله.
الحِكم
الحكمة هي جملة قصيرة تخلو من الحشو، وغالبًا ما تستنتج من تجارب الحكماء والمعمرين؛ لتقديم خبراتهم في الحياة والعلاقات ونشرها بين الناس، والحكمة هي ثمرة ما فعله الزمن بهم، ونتيجة لحال الدهر المتقلب، ويغلب عليها الحكمة، والسداد في الرأي، وكان لدى العرب في العصر الجاهلي مجموعة من الحكماء، عرفوا بحِكمهم ومن أمثال هؤلاء:
- لقمان عاد، وهو غير لقمان الحكيم، الذي ورد ذكره في القرآن الكريم.
- أكثم بن صيفي.
- ولبيد بن ربيعة.
- وعامر بن الظرب.
وبعض هؤلاء الحكماء يُعدون من الخطباء أيضًا، وحكامًا في الخلافات التي تنشأ فيقضون بين الناس بالقول الفصل؛ وذلك بسبب ما يمتلكونه من حكمة وخبرة في الحياة، وانتشر هذا الفن بين السادة والشرفاء خاصة، ولكن في المجتمع العربي الجاهلي لا يكاد يوجد شخص حر إلا وقال حِكمة في حياته، فالأمر لم يقتصر على فئة خاصة في المجتمع.
ويتداخل فن الحكمة مع الفنون النثرية الأخرى، فتحتوي الخطبة على حِكمة أو مجموعة من الحِكم، وغالبًا ما يكون الخطباء هم في الأساس من الحكماء، لأنّ الخطيب يحتاج الحِكم لإقناع الناس بخطبته التي يلقيها على مسامعهم.
وترتبط الحِكمة في المثل عند التأريخ لفن الحِكمة، لكن الفارق بينهما أنّ الحِكمة لا تصدر إلا عن فئة خاصة في المجتمع، وهم الحكماء والفضلاء، أما المثل فيرتبط بالقصة التي أدت له، ومن الممكن أنْ يصدر كذلك من عامة الناس، ومن أهم الأمثلة على الحِكم في العصر الجاهلي ما يأتي:
- مصارعُ الرجالِ تحت بروق الطمع.
- رُبّ ملومٍ لا ذنب لهُ.
- أدبُ المرءِ خيرٌ مِن ذهبه.
القصص
يعزو الدكتور أحمد أمين السبب في انتشار فن القصص في العصر الجاهلي إلى صلة عرب الجاهلية بغيرهم من الأمم وأهمها الإغريق والفرس، وتمثلت فــى أنّهــم أخذوا بعـض القَـصَص عنهم وترجموها، فاحتفظوا بـما يروونه مناسبًا لهم، وعدّلوا على بعض القصص لتتناسب مع ثقافتهم إما بالإضافة أو الحذف منها، كما ظهر ما يعرف بقصص أيام العرب، وهي قصص العرب الأصيلة، وعرفت أيضًا باسم أحاديث الهوى.
وفي نفس السياق وردت كلمة القصص ومشتقاتها في عدة مواضع في القرآن، كما ذكرت العديد من القصص في القرآن الكريم، كتحدٍ للقصص الجاهلية التي تداولها العرب لصرف قلوب الناس عن الإسلام في بداياته، وهذا يدل على أنّ العرب في الجاهلية عرفوا هذا الفن.
كما ورد في كتب التاريخ أنّ الرجال الموالون لمعاوية أرّخوا لهذا الفن نقلًا لأخبار العرب وسياسات الملوك القدماء، وتضمنت هذه القصص أيضًا الجانب الأسطوري في ثقافة العرب قبل الإسلام، كما تعد مصدرًا مهمًا لدراسة ثقافة العرب قبل الإسلام، وحياتهم الاجماعية، والثقافية، والسياسية.
وذكر الدكتور شوقي ضيف أنّ العرب قبل الإسلام كان لديهم أهم رواة القصص وأنّ فن القصة ليس فنًا غربيًا دخيلًا على العرب، أو وليد ثقافة أخرى، وأرجع السبب في ذلك إلى العامل البيئي والجغرافي؛ فحياة الصحراء رغم صعوبتها إلا أنّها مليئة بأوقات الفراغ، وكان العرب يتسامرون في لياليهم في الصحراء بالقصص المسلية.
الرسائل الأدبية المحبرة
عُرف العرب بتدوينهم الأحداث في رسائلهم، وحسب العلامة ناصرالدين الأسد فإنّ فن الرسائل الأدبية كان من الفنون الجاهلية، رغم قلة المصادر التي وثقت تلك الرسائل، وهذه الرسائل ليست رسائل فنية، بل كانت رسائل أدبية، وبحسب المتخصصين في تاريخ النثر العربي.
فأنّهم يرجعون قلة المصادر حول فن الرسائل الأدبية إلى تفشي الأمية في العصر الجاهلي، وقلة الاهتمام بالتدوين في ذلك العصر، فغلب الطابع الشفهي، ولا يوجد أمثلة على فن الرسائل المحبرة سوى المثال الذي ضربه الأديب زكي جمال.
فبحسب وجهة نظره أنّ القرآن هو المثال الوحيد على فن الرسائل النثرية، فهو مجموعة رسائل إلهية، وحظي باهتمام المدونين، والكتاب، لكن طه حسين يرى أنّ النثر الجاهلي تأثر بالدرجة الأولى بالفرس واليونان، وهذا يعني أنّ لا نثر في العصر الجاهلي بالمعنى الحرفي.
وجاءت أطروحة زكي مبارك كرد فعل على رأي طه حسين، ودار سجال كبير بين النقاد والأدباء العرب في العصر الحديث حول التأريخ لفن الرسائل في العصر الجاهلي؛ لأنّ الغالبية العظمى من الأدباء تذهب إلى انعدام هذا الفن في الجاهلية.
سجع الكهان
سمي نثر سجع الكهان بهذا الاسم نسبةً إلى طائفة كانت تدعي اتصالها بالجن ومعرفتها للغيب، وكانوا يتمتعون بمكانة دينية، ذات طابع قداسي، فكانوا يقرأون الطالع لمن أراد أنْ يسافر، أو يغزو مناطق بعيدة، ويحاولون التنبؤ بالمستقبل، وهذا التنبؤ كان على شكل مجموعة من الجمل التي تتميز بالسجع.
ومن أبرز الكهان الذين كتبو نثرًا مسجوعًا هم الآتية أسماؤهم:
- بني الحارث بن كعب.
- خنافر الحميري.
ومن أهم الأمثلة على سجع الكهان في العصر الجاهلي، قول عُزى سلمة: "الأرض والسماء، والعقاب والصقعاء، واقعة ببقعاء، لقد نفر المجد بني عشراء، للمجد والسناء".
ويتميز هذا النوع من السجع بقصر الجملة، وقدرتها على التعبير بإيجاز عن الحالة المرادة، كما يظهر العنصر المغشي عليه والموسيقى في سجع الكهان، وبشكل يمكن ملاحظته بوضوح.