أثر الصيام على سلوك المسلم
كيف يؤثر الصيام في سلوك المسلم؟
تتجلّى آثار فريضة الصيام في سلوك المسلم في العديد من الأمور، وفيما يأتي بيان البعض منها:
زيادة التقوى في القلوب، وتجديد الإيمان فيها
قال الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ)؛ فللصيام أثرٌ واضحٌ في وقاية المسلم من الوقوع في الشهوات، أو اقتراف الذنوب والمعاصي؛ إذ يمتنع العبد من الوقوع فيما يُغضب الله -تعالى-، ويُلزم الطاعات، والأعمال الصالحة؛ ولذلك كان الأجر المُترتّب على الصيام مختلفاً عن الأُجور المُترتّبة على باقي الأعمال، قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام- فيما يرويه عن ربّه -عزّ وجلّ-: (كُلُّ عَمَلِ ابْنِ آدَمَ له إلَّا الصَّوْمَ، فإنَّه لي وأنا أجْزِي به، ولَخُلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِن رِيحِ المِسْكِ).
وقد اختصّ الله الصيامَ بالأجر العظيم؛ بسبب ما ينطوي عليه من الإخلاص؛ إذ إنّ نيّته مَخفيّةٌ فيما بين العبد وربّه؛ لتدلّ على حقيقة ومنزلة إيمان المسلم وتقواه، ويُراد بالتقوى: أن يجعل العبد بينه وبين الوقوع في غضب الله حاجزاً يمنعه من الوقوع فيه، بالرضا التامّ عن كلّ ما أمر به الله -سبحانه-، وأداء تلك الأوامر بقناعةٍ، واجتناب المُحرّمات والنواهي جميعها.
استشعار مراقبة الله في السرّ والعلن
الصيام يُقوّي العلاقة الروحيّة بين العبد وربّه؛ فيستشعر مراقبته -سبحانه- في الأحوال جميعها، فيبتعد عن كل ما يغضب الله، ويقترب من كل ما يرضيه -سبحانه-.
التربية على تحقيق التوازن والاعتدال في حياته
الصيام يُهذّب النفس الإنسانيّة؛ إذ إنّ الإفطار والإمساك مُحدّدان بموعدٍ مُعيّنٍ، وبذلك تعتاد النفس على القناعة، وتنظيم قضاء شهوة الطعام، وفي ذلك اقتداءٌ بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ كان يبيت الليالي لا يأكل شيئاً، كما روى عبدالله بن عباس -رضي الله عنهما-: (كانَ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليْهِ وسلَّمَ يَبيتُ اللَّيالي المتتابعةَ طاوِيًا وأَهلُهُ لا يجدونَ عَشاءً وَكانَ أَكثرُ خبزِهم خبزَ الشَّعيرِ).
إدارك النِّعم الكثيرة على العباد
المسلم يُدرك قيمة النِّعم التي منحه إيّاها الله بشكلٍ أكبرٍ إن فقدها؛ ولذلك فإنّ الصائم يستشعر فضل الله عليه، بنِعَم الطعام، والشراب، والنِّكاح؛ بسبب امتناعه عنها مُؤقّتاً، ممّا يُعزّز في النفس الإنسانيّة الإحساس بحاجات الفقراء والمساكين، وغيرهم من المحتاجين.
تربية النفس على لزوم الصدق في القول والعمل
ذلك من خلال لزوم الحقّ والصواب، والوفاء بعهد النفس على الطاعة والعمل، وموافقة الظاهر للباطن، بعيداً عن الكذب، والنفاق، فتتعزّز الأخلاق العظيمة في النفس أيضاً؛ بإدراك الأجر المُترتّب على الصيام، والحرص على عدم ضياعها؛ بالزور، أو الكذب، فيحمل المسلم نفسه بذلك على لزوم الصدق، والطاعة في صيامه؛ ليضمن بذلك تحقيق الأجر المُترتّب عليه، وفي ذلك أخرج الإمام البخاري في صحيحه عن أبي هريرة -رضي لله عنه-، أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (مَن لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ والعَمَلَ به، فليسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ في أنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وشَرَابَهُ)، وتحقُّق الصدق في النفس الإنسانيّة يؤدّي إلى لزوم معالي الأمور ومحاسنها، واجتناب سفاسف الأعمال.
تحرّي الدقّة والحقيقة في الأمور كلّها
سواءً كانت قوليةً، أو عمليّةً؛ فالصيام يمنع ارتكاب أيّ عملٍ ينافي الصدق في الأمور، أو يخالفه، وبالتالي ينال المسلم محبّة الله -سبحانه-، والقُرب منه، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبدالله بن مسعود -رضي الله عنهما-، عن النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ الصِّدْقَ يَهْدِي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يَهْدِي إلى الجَنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ لَيَصْدُقُ حتَّى يَكونَ صِدِّيقًا).
أثر الصيام في تربية شخصيّة المسلم
يُحدث الصيام أثراً كبيراً في شخصيّة المسلم، ويُذكَر من ذلك:
تقوية إرادة المسلم
إذ يُعلّمه الصيام القدرة على ضبط نفسه، ومقاومة رغباتها، كما يسمو بالنفس الإنسانيّة من الناحية الخُلُقيّة؛ لينال بذلك مرتبة الصائم القائم، قال النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (إنَّ المؤمنَ ليُدْرِكُ بحُسْنِ خُلُقِه درجةَ الصَّائمِ القائمِ).
تربية النفس على خُلق الصبر المُتضمِّن للصبر على طاعة الله
يكون ذلك بحبس النفس، ومنعها من الطعام، والشراب، وغيرهما من الشهوات؛ لتحقيق مرضاة الله -سبحانه-، كما أنّ في الصيام صبرٌ عن الشهوات والمعاصي؛ وبهذا يحقّق الصائم المُمتنِع عن المعاصي لذّة الصبر عمّا حرّمه الله، بالإضافة إلى الصبر على ما قدّره الله؛ بما يكون من الصبر على الجوع، والعطش.
تعويد النفس الإنسانيّة على شُكر الله وحمده
الصوم وسيلة إلى شكر النعم؛ لأن كفّ النفس عن الأكل، والشرب، وسائر المفطرات من أجلِّ النعم وأعلاها؛ لأن الامتناع عن هذه النعم زماناً معتبراً يُعرِّفُ قدرها؛ لأن النعم مجهولة، فإذا فقدت عُرفت، فيحمل ذلك على القيام بشكر الله تعالى؛ ولهذا إذا أفطر الصائم وجد لذة عظيمة للشراب البارد على الظمأ، وكذلك الطعام، فيحمله ذلك على شكر الله -عز وجل-، وقد جاءت الإشارة إلى ذلك أثناء الكلام عن الصيام قال الله تعالى:(وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُون).
أثر الصيام في المجتمع
تربية المجتمع المسلم على التكافل الاجتماعي
ذلك اقتداءً بالنبيّ -عليه الصلاة والسلام-؛ إذ كان كثير العطاء والسخاء في شهر رمضان، فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن عبدالله بن عبّاس -رضي الله عنهما-: (كانَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ أَجْوَدَ النَّاسِ بالخَيْرِ، وَكانَ أَجْوَدَ ما يَكونُ في شَهْرِ رَمَضَانَ)؛ فيُضاعَف أجر المسلم في رمضان بخِلاف غيره من الشهور، كما ضرب السلف الصالح -رضي الله عنهم- أروع الأمثلة في صنائع المعروف في شهر رمضان؛ فرُوِي عن عبدالله بن عمر -رضي الله عنهما- أنّه كان يضع الطعام بين يديه للإفطار بعد الصيام، فيدخل عليه السائل، فيُقدّم له طعامه، وكان التابعيّ الحسن البصريّ يُعِدّ الولائم للفقراء، والمساكين، واليتامى في رمضان؛ عملاً بقول الرسول -عليه الصلاة والسلام-: (مَن فطَّرَ صائمًا كانَ لَهُ مثلُ أجرِهِ ، غيرَ أنَّهُ لا ينقُصُ من أجرِ الصَّائمِ شيئًا).
ومن شأن اجتماع المسلمين مع بعضهم على موائد الإفطار تعزيز الروابط فيما بينهم، والتأليف بين قلوبهم؛ فتقوى نفوسهم على الطاعة والعمل، إضافة إلى أنّ شهر رمضان فرصةٌ عظيمةٌ لسَدّ حاجات الفقراء والمحتاجين؛ التماساً للأجر والثواب من الله -سبحانه-، فيصل المسلمون إلى مرتبة الإحسان الذي يُعدّ أعلى مراتب الإيمان، وبالتالي نَيل مَحبّة الله -سبحانه- القائل: (فَآتَاهُمُ اللَّـهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّـهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ).
تعزيز الوحدة بين مستويات المجتمع المسلم
إذ تتجلّى في شهر رمضان الوحدة والأُخوّة في أسمى معانيها وصُورها؛ فالمسلمون على اختلاف أجناسهم، ومراتبهم، ولُغاتهم يصومون في وقتٍ واحدٍ، ويفطرون في وقتٍ واحدٍ، لا فرق في ذلك بين غنيٍّ وفقيرٍ، أو ذكرٍ وأنثى، كما تظهر معاني وحدة المسلمين في وقوفهم صفّاً واحداً للصلاة، على اختلاف مستوياتهم، ومكانتهم.
تحقيق المساواة بين جميع أفراد المجتمع، ومنع الاختلاف بينهم
الصوم عامل مهم وفعال فى الارتقاء بمستوى الافراد والمجتمعات علي كافة الاصعدة الروحية والنفسية والتربوية والاجتماعية والصحية والامنية وهو يحقق للجميع مزيدا من الرقي والسمو المادى والمعنوي، وبهذا الأثر تزداد روابط الأخوة ويتحقق معنى حديث النبيّ -عليه الصلاة والسلام-: (تَرَى المُؤْمِنِينَ في تَراحُمِهِمْ وتَوادِّهِمْ وتَعاطُفِهِمْ، كَمَثَلِ الجَسَدِ، إذا اشْتَكَى عُضْوًا تَداعَى له سائِرُ جَسَدِهِ بالسَّهَرِ والحُمَّى).
خلاصة المقال: الصيام شعيرة عظيمة شرعها الله عزوجل في الأساس لتحقيق التقوى، وإذا أداها المسلم على أكمل وجه انعكس أثرها على جميع نواحي الحياة؛ لما لها من أثر طيب في زيادة مستوى الإيمان وتربية النفس وتعويدها على الصبر والمجاهدة، فالصيام يعتبر بحق مدرسة تدريبية تقرب المسلم من الله تعالى، ولا يقتصر أثر الصيام على مستوى الفرد فقط بل يتعدى ذلك إلى مستوى المجتمع، فنلحظ في هذا الشهر ازدياد مظاهر التكافل الاجتماعي وازدياد روابط الأخوة والوحدة بين أفراد المجتمع.