مواعظ ووصايا معاذ بن جبل
مواعظ ووصايا معاذ بن جبل
لقد ترك لنا معاذ بن جبل -رضي الله- عنه ثروة من المواعظ، والحكم، والدروس التربوية التي تهذب النفس، وتصقل الطبع، وتغذي الروح، وفيما يأتي بعضاً منها:
حضه على طلب العلم
روى عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه قال: "تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ، فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لا يَعْلَمُهُ صَدَقَةٌ ، وَبَذْلَهُ لأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ سَبِيلِ الْجَنَّةِ، وَالأُنْسُ فِي الْوَحْدَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْعُزْلَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلاحُ عَلَى الأَعْدَاءِ، وَالزَّيْنُ عِنْدَ الأَخِلَّاءِ، وَالْقَرِيبُ عِنْدَ الْغُرَبَاءِ".
"يَرْفَعُ اللَّهُ بِهِ أَقْوَامًا فَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً، وَهُدَاةً يُهْتَدَى بِهِمْ، وَأَئِمَّةً فِي الْخَيْرِ تُقْتَصُّ آثَارُهُمْ، وَتُرْمَقُ أَعْمَالُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، وَفِي صَلاتِهَا تَسْتَغْفِرُ لَهُمْ، حَتَّى حِيتَانِ الْبَحْرِ وَهَوَامِّهِ، وَسِبَاعِ الْبَرِّ وَأَنْعَامِهِ، وَالسَّمَاءِ وَنُجُومِهَا؛ لأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْعَمَى، وَنُورُ الأَبْصَارِ مِنَ الظُّلَمِ، وَقُوَّةُ الأَبْدَانِ مِنَ الضَّعْفِ".
"يَبْلُغُ بِالْعَبْدِ مَنَازِلَ الأَبْرَارِ، وَمَجَالِسَ الْمُلُوكِ، وَالدَّرَجَاتِ الْعُلَا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَالْفِكْرَةُ فِيهِ تُعْدَلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، وَبِهِ يُطَاعُ وَيُعْبَدُ، وَبِهِ يُعْمَلُ وَيُحْفَدُ، وَبِهِ يُتَوَرَّعُ وَيُؤْجَرُ، وَبِهِ تُوصَلُ الأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعَمَلِ وَالْعَمَلُ، قَالَ: تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءُ، وَيُحْرَمُهُ الأَشْقِيَاءُ".
قرن العلم بالعمل
قال معاذ بن جبل -رضي الله عنه-: "اعْلَمُوا مَا شِئْتُمْ أَنْ تَعْلَمُوا، فَلَنْ يُؤْجِرَكُمُ اللهُ بِعِلْمٍ حَتَّى تَعْمَلُوا"، وهذا باب من الفقه عظيم، وهو الحرص على أخذ العلم من أجل العمل، بل لا ينبغي لطالب العلم أن يجاوز شيئاً من العلم حتى يقوم بحقه من العمل.
التحذير من اليأس والبدع
عن معاذ بن جبل -رضي الله عنه- أنه قال: "إنَّ مِن ورائِكم فتناً يكثر فيها المالُ، ويُفتحُ فيها القرآن حتى يأخذَه المؤمنُ والمنافقُ والرَّجلُ والمرأةُ والصغيرُ والكبيرُ والعبدُ والحرُّ، فيوشكُ قائلٌ أن يقول: ما للناسِ لا يتَّبعوني وقد قرأتُ القرآنَ؟، ما هم بمتَّبعيَّ حتى أبتدعَ لهم غيرَه، فإيَّاكم وما ابتدع، فإنَّ ما ابتدعَ ضلالةٌ".
حضه على التوبة
لما مات أبو عبيدة في طاعون عمواس، واستخلف معاذ بن جبل -رضي الله عنهما- ليصلي بالناس ويقود الجيش، فوقف معاذ بن جبل فقال:" يا أيها الناس، توبوا إلى الله من ذنوبكم، فأيما عبد يلقى الله -تعالى- تائبًا من ذنبه إلا كان على الله حقا أن يغفر له، من كان عليه دين فليقضه، فإن العبد مرتهن بدينه، ومن أصبح منكم مهاجرًا أخاه فليلقه فليصالحه".
"ولا ينبغي لمسلم أن يهجر أخاه أكثر من ثلاثة أيام، أيها المسلمون قد فجعتم برجل ما أزعم أني رأيت عبدًا أبر صدرًا، ولا أبعد من الغائلة، ولا أشد حبا للعامة ولا أنصح منه، فترحموا عليه واحضروا الصلاة عليه".
تحذيره من صفات السوء
لما أصيب أبو عبيدة في طاعون عمواس استخلف على الناس معاذ بن جبل -رضي الله عنه-، فوقف في الناس خطيباً فكان مما قاله: "أَيُّهَا النَّاسُ، أَرْبَعُ خِلَالٍ مَنِ اسْتَطَاعَ أَنْ لَا يُدْرِكَهُ شَيْءٌ مِنْهُنَّ فَلَا يُدْرِكْهُ، قَالُوا: وَمَا هِيَ؟ قَالَ: يَأْتِي زَمَانٌ يَظْهَرُ فِيهِ الْبَاطِلُ".
"وَيُصْبِحُ الرَّجُلُ عَلَى دِينٍ وَيُمْسِي عَلَى آخَرَ، وَيَقُولُ الرَّجُلُ: وَاللَّهِ مَا أَدْرِي عَلَى مَا أَنَا، لَا يَعِيشُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَلَا يَمُوتُ عَلَى بَصِيرَةٍ، وَيُعْطَى الرَّجُلُ الْمَالَ مِنْ مَالِ اللَّهِ عَلَى أَنْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامِ الزُّورِ الَّذِي يُسْخِطُ اللَّهَ".
معاذ بن جبل
هو معاذ بن جبل بن عمرو بن أوس الأنصاري الخزرجي صحابي جليل، أسلم وهو صغير، وحفظ القرآن الكريم، وكان أعلم الأمة بالحلال والحرام، وشهد مع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- المواقع كلها، أرسله رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بعد غزوة تبوك إلى اليمن قاضيًا ومرشدًا لأهلها، فظل معاذ بن جبل هناك حتى توفي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فعاد معاذ إلى المدينة.
وخرج مع أبي عبيدة بن الجراح في غزو بلاد الشام، ولما توفي أبو عبيدة في طاعون عمواس خلفه معاذ بن جبل في القيادة. وتوفى -رضى الله عنه- سنة (18 هـ - 639 م)، ودُفن بالقصير المعيني (الغور) في الأردن، حيث توفي في مرض الطاعون وكان يبلغ من العمر ثماني وثلاثون سنة.
ومعاذ بن جبل صاحب الفقه والعمل، القارئ الثابت، العابد القانت كان تقياً عابداً، ورعاً زاهداً قانتاً، شديد الخوف من الله -سبحانه وتعالى-، وعرف بشدة العدل بين زوجتيه؛ فقد أثر عنه -رضي الله عنه وأرضاه-: أنه إذا كانت الليلة لواحدة منهما وأصبح، لم يشرب في بيت الأخرى، كل ذلك يخاف أن يكون ظالماً!، حتى شاء الله -تبارك وتعالى- أن تموت كلتا زوجتيه في يوم واحد، فغسلتا وكفنتا.
وصلى الناس عليهما، وكان الناس في ذلك اليوم منشغلين؛ فما حضر الجنازة إلا القليل، فلما دنا من قبره وأراد أن يقبر الزوجتين احتار -رضي الله عنه- أيتهما يقدم!؛ خاف -من الله- أن يقدم إحداهما فيحاسبه الله بعد وفاتهما على ظلمهما، حتى إنه -رضي الله عنه- أقرع بين المرأتين، فلما أقرع بينهما خرجت القرعة على واحدة منهما، فقدمها في القبر.