من هم السلف الصالح
من هم السَّلف الصالح
بيان تعريف السَّلف في اللغة والاصطلاح الشرعيّ فيما يأتي:
- السَّلف في اللغة: لفظٌ يُطلق على ما انقضى ومضى، يُقال: الأزمنة السالفة؛ أي الماضية، ويُقال: السّالف؛ أي المُتقدّم والسابق، قال -تعالى-: (فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ*فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِّلْآخِرِينَ)، وسلف العمل؛ أي الصالح منه، ويُطلق لفظ السلف على الأقارب والآباء ممّن سبق.
- السَّلف الصالح في الاصطلاح الشرعيّ: هم مَن اقتدوا وانتهجوا نَهْج النبيّ محمّدٍ -عليه السلام-، وساروا عليه، وطبّقوه بإحسانٍ إلى يوم الدِّين، تطبيقاً لقَوْله -تعالى-: (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّـهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّـهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّـهَ كَثِيرًا)، ويتمثّل السَّلف الصالح بأهل الأزمنة الثلاث الأولى؛ التي تبدأ بعهد النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، ثمّ عهد الصحابة -رضي الله عنهم-، وتنتهي بعهد التابعين، كما ثبت في صحيح الإمام البخاريّ عن عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- قال: (سُئِلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أيُّ النَّاسِ خَيْرٌ؟ قَالَ: قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ: تَسْبِقُ شَهَادَةُ أحَدِهِمْ يَمِينَهُ ويَمِينُهُ شَهَادَتَهُ. قَالَ إبْرَاهِيمُ: وكانَ أصْحَابُنَا يَنْهَوْنَا - ونَحْنُ غِلْمَانٌ - أنْ نَحْلِفَ بالشَّهَادَةِ والعَهْدِ)، وهم مَن يحتكمون إلى القرآن الكريم ، وسنّة النبيّ -عليه الصلاة والسلام-، امتثالاً لأمر الله -تعالى-: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّـهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّـهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا)، وقد أقرّ الرّسول -عليه الصلاة والسلام- وشَهِدَ لأصحابه بالخيريّة والصلاح، فأوصى باتّباعهم، وامتثال أوامرهم، بقَوْله: (وإياكم ومحدثاتِ الأمورِ، فإنها ضلالةٌ فمن أدرك ذلك منكم فعليه بسنَّتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدِين المهديِّين عَضوا عليها بالنواجذِ)، كما وصفهم الله -تعالى- في كتابه قائلاً: (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّـهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا)، فهم الأقرب للرسول -صلّى الله عليه وسلّم- منزلةً ومكاناً، سليمي السريرة والخُلق، تمسّكوا بتعاليمه بحذافيرها، ويليهم بالأفضليّة التابعين الذين أدركوهم، وأخذوا عنهم كما علّمهم رسول الله، فأُطلق عليهم جميعاً السَّلف الصالح.
سمات السَّلف الصالح
يتميّز السَّلف الصالح بالكثير من السمات والميّزات التي يتحلّون بها، بيان البعض منها فيما يأتي:
- حُسن الخُلق: حَرِص السَّلف الصالح على التمسّك بالخُلق الحسن، والتحلّي بأحسن الصفات، وأفضلها؛ كاللين، واللطف، والرّحمة، والبشاشة، والبُعد عن أبغض الصفات، ورد عن أبي ذر الغفاريّ -رضي الله عنه- أنّ النبيّ -عليه الصلاة والسلام- قال: (تَبَسُّمُكَ في وجهِ أخيكَ لك صدقةٌ)، وكان الإمام عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه- يقول: "مَن لانت كلمته؛ وَجَبت محبّته"، وكان أبو الدرداء -رضي الله عنه- يدعو الله -تعالى- قائلاً: "اللهمّ أحسنت خَلقي فأحسن خُلقي"، وكان يقول: "إنّ العبد المسلم يُحسّن خُلُقه حتى يُدخله حُسْن خُلُقه الجنّة، ويسوء خُلُقه حتى يدخله سوء خُلُقه النّار"، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- وأصحاب رسول الله من أضحك النّاس، وكان الإيمان في قلوبهم أعظم من الجبال، فكان ابن سيرين -رحمه الله- كثير الضحك حتى تدمع عيناه، وقد ورد أنّ سفيان الثوريّ -رحمه الله- كان كثير المُزاح، ولم يغفل السَّلف عن الكثير من الأخلاق التي تُمثّل حُسن الخُلق؛ كإفشاء وردّ السلام؛ امتثالاً لأمره -تعالى-: (وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّـهَ كَانَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا)، وحُسن الاستماع، وعدم مقاطعة المُتحدّث، وحُسن الصُحبة والمحادثة، قال -تعالى-: (وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا)، والتواضع ، وطلاقة الوجه، فقد أخرج الإمام السيوطي -رحمه الله- بروايةٍ ضعيفةٍ أنّ الرّسول -عليه الصلاة والسلام- كان يقول: (سيدُ القومِ خادمُهمْ)، ومن أخلاقهم: القول اللين، وأدب المُناصحة والإرشاد، قال -تعالى-: (فَقولا لَهُ قَولًا لَيِّنًا لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَو يَخشى)، والخوف والخشية من عدم قبول الأعمال، فقد ورد عن عائشة أمّ المؤمنين -رضي الله عنها- أنّها قالت: (سألتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ عن هذِهِ الآيةِ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ قالت عائشةُ: أَهُمُ الَّذينَ يشربونَ الخمرَ ويسرِقونَ قالَ لا يا بنتَ الصِّدِّيقِ، ولَكِنَّهمُ الَّذينَ يصومونَ ويصلُّونَ ويتصدَّقونَ، وَهُم يخافونَ أن لا تُقبَلَ منهُم أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ)، فمن صفات السَّلف الصالح المواظبة على أداء الطاعات والأعمال الصالحة؛ لنَيْل رضا الله -تعالى-، ومغفرته.
- الخوف من النِّفاق: اتّسم السَّلف الصالح بشدّة الحذر من النِّفاق، والابتعاد عنه، ومُراقبة وساوس الشيطان والنَّفس، والانشغال بِذِكْر الله وطاعته؛ لِما له من أثرٍ وخيمٍ على حياة المؤمن في الدُّنيا والآخرة، وقد حذّر الله -تعالى- منه في القرآن الكريم، بقَوْله: (إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا)، وقد وصفهم الرّسول -عليه الصلاة والسلام- بقَوْله: (مَثَلُ المُنافِقِ، كَمَثَلِ الشَّاةِ العائِرَةِ بيْنَ الغَنَمَيْنِ تَعِيرُ إلى هذِه مَرَّةً وإلَى هذِه مَرَّةً)، والعائر هو: غير المستقرّ، وغير الثابت، المُتردّد في الخُطى، ومن صور خوف السَّلف الصالح من النِّفاق؛ ما ثبت في صحيح الإمام مُسلم عن حنظلة -رضي الله عنه- أنّه قال: (لَقِيَنِي أَبُو بَكْرٍ، فَقالَ: كيفَ أَنْتَ؟ يا حَنْظَلَةُ قالَ: قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، قالَ: سُبْحَانَ اللهِ ما تَقُولُ؟ قالَ: قُلتُ: نَكُونُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، يُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، فَنَسِينَا كَثِيرًا، قالَ أَبُو بَكْرٍ: فَوَاللَّهِ إنَّا لَنَلْقَى مِثْلَ هذا، فَانْطَلَقْتُ أَنَا وَأَبُو بَكْرٍ، حتَّى دَخَلْنَا علَى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، قُلتُ: نَافَقَ حَنْظَلَةُ، يا رَسُولَ اللهِ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَما ذَاكَ؟ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، نَكُونُ عِنْدَكَ، تُذَكِّرُنَا بالنَّارِ وَالْجَنَّةِ، حتَّى كَأنَّا رَأْيُ عَيْنٍ، فَإِذَا خَرَجْنَا مِن عِندِكَ، عَافَسْنَا الأزْوَاجَ وَالأوْلَادَ وَالضَّيْعَاتِ، نَسِينَا كَثِيرًا فَقالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ: وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ إنْ لو تَدُومُونَ علَى ما تَكُونُونَ عِندِي، وفي الذِّكْرِ، لَصَافَحَتْكُمُ المَلَائِكَةُ علَى فُرُشِكُمْ وفي طُرُقِكُمْ، وَلَكِنْ يا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ)، ورد عن الحَسن -رحمه الله- أنّ المؤمن يخاف النفاق، أمّا المُنافق فيَأْمَنه، وقال ابن القيّم -رحمه الله-: "تالله، لقد مُلئت قلوب القوم إيماناً ويقيناً، وخوفهم من النفاق شديداً، وهَمُّهم لذلك ثقيلاً، وسواهم كثير منهم لا يجاوز إيمانهم حناجرهم، وهم يدّعون أنّ إيمانهم كإيمان جبريل وميكائيل".
- الصَّبْر على شدّة العيش: أي الصَّبْر على شدّة وضيق الحال، وعلى الابتلاء، ومن الأمثلة على ذلك: صَبْر السيدة فاطمة الزّهراء سيّدة نساء أهل الجنّة على حالها في الحياة الدُّنيا، فقد أخرج البخاريّ في صحيحه عن عليّ بن أبي طالب -رضي الله عنه-: (أنَّ فَاطِمَةَ عَلَيْهَا السَّلَامُ أتَتِ النبيَّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تَسْأَلُهُ خَادِمًا، فَقالَ: ألَا أُخْبِرُكِ ما هو خَيْرٌ لَكِ منه؟ تُسَبِّحِينَ اللَّهَ عِنْدَ مَنَامِكِ ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتَحْمَدِينَ اللَّهَ ثَلَاثًا وثَلَاثِينَ، وتُكَبِّرِينَ اللَّهَ أرْبَعًا وثَلَاثِينَ ثُمَّ قالَ سُفْيَانُ: إحْدَاهُنَّ أرْبَعٌ وثَلَاثُونَ، فَما تَرَكْتُهَا بَعْدُ، قيلَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ؟ قالَ: ولَا لَيْلَةَ صِفِّينَ)، ففي الحديث جانباً من جوانب الصَّبْر على مشقّة الحياة، وتعبها، والرضا بالحال، والسَّعي للفوز بالآخرة، والإقبال على العمل الذي يُورث الأجر والثواب الجزيل.
- علوّ الهمّة في العبادة: بالإقبال والإكثار من العبادات والطاعات، التي تُحقّق القُرب من الله -سُبحانه-، فيُجازى العبد على ذلك الثواب العظيم، مع البُعد عمّا يُلهي ويُشغل عن ذِكْر الله، والحرص على التفرّغ لعبادته، وقد كان الحسن البصريّ -رحمه الله- يقول: "مَن نافسك في دِينك فنافسه، ومَن نافسك في دُنياه فألقها في نحره"، وقد استمدّ -رحمه الله- قَوْله من قَوْل الله -تعالى-: (خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ)، وكان ابن عمر -رضي الله عنهما- يحرص كلّ الحرص على صلاة الجماعة، فإن فاتته؛ صام يوماً، وأحيا ليلةً، وأعتق رقبةً؛ لشدّة وَرَعه، وعلوّ همّته في العبادة، فكانوا حريصين على قيام الليل، ولا يتركوه أبداً، فقد سُئل عامر بن عبدالله عن قدرته على سهر الليل للقيام، فقال: "هل هو إلّا أنّي تركت طعام النّهار إلى الليل، ونوم الليل إلى النّهار، وليس في ذلك خطير أمرٍ".
الاقتداء بالسَّلف الصالح
يُستحسن بالمُسلم الاقتداء بالسَّلف الصالح؛ فالاقتداء بهم من الأمور التي يجدر الحرص عليها، ومُلازمتها، بالسَّير على نَهْجهم، والتأسي بأخلاقهم وأفعالهم، والبُعد عن النفاق والضلال، وكلّ ما يُشغل عن طاعة الله -تعالى-، من المعاصي، والمُنكرات، والمُلهيات، وقد وصفهم الله -تعالى- في كتابه قائلاً: (وَالسّابِقونَ الأَوَّلونَ مِنَ المُهاجِرينَ وَالأَنصارِ وَالَّذينَ اتَّبَعوهُم بِإِحسانٍ رَضِيَ اللَّـهُ عَنهُم وَرَضوا عَنهُ وَأَعَدَّ لَهُم جَنّاتٍ تَجري تَحتَهَا الأَنهارُ خالِدينَ فيها أَبَدًا ذلِكَ الفَوزُ العَظيمُ)، فالاقتداء بالسَّلف الصالح من أسباب نَيْل الرضا، والمغفرة من الله -تعالى-، والفوز بالجنّة ، والنّعيم المُقيم بإذنه -تعالى-.