من بنى مدينة تدمر
مدينة تدمر
تقعُ منطقة تدمر في الجمهوريّة السوريّة، في محافظة حِمص، وتحديداً على دائرة عَرض 34.56، وخطّ طول 38.28، وعلى ارتفاع 418 متراً فوق مُستوى سطح البحر ، وهي تقع في وسط بادية الشام، وتَبعدُ عن العاصمة دمشق 243كم، ومن الجدير بالذكر أنّ الكثافة السكّانية لمدينة تدمر تبلغ حوالي 51,015 نسمة، مٌشكِّلةً بذلك ثالث أكبر مدينة في محافظة حِمص السوريّة.
لم يُعرَف أيّ معنىً مُؤكَّد لاسم (تدمر)؛ حيث يرجع أقدم ذكر لاسم تدمر إلى الألف الثاني قَبْل الميلاد، وقد قِيل إنّ هذا الاسم من ناحية المنطق مُشتَقٌّ من "دَمَر" بمعنى: "حَمَى"، والاسم اليونانيّ له هو (بالميرا)، وهو مُشتَقٌّ من كلمة لاتينيّة معناها: النخيل ، وينسبُ بعض الباحثين منشأ الاسم للإسكندر الأكبر الذي دخل إلى تدمر، وسمّاها (بالميرا)؛ لما رأى فيها من الغابات المليئة بأشجار النخيل، وقد ظلَّ هذا الاسم منسوباً إلى تلك المنطقة منذ ذلك الوقت. وقد ذُكرت مدينة تدمر في عدّة مواضع في النصوص القديمة على مَرّ التاريخح حيث وَرَد اسم أحد التدمُريّين (بوزور آشور) في مخطوط آشوريّ اكتُشِف في مدينة (كول تبه) في (كبادوكيا) الموجودة في منطقة الأناضول ، وذلك في القرن التاسع عشر قَبْل الميلاد، كما ذُكِرت مدينة تَدمُر في نصوص تعود إلى مملكة ماري في القرن الثامن عشر قَبْل الميلاد، إضافة إلى أنّ ذِكْر تَدمُر قد ورد أيضاً في نصوص إيمار في القرن الرابع عشر قَبل الميلاد.
أوّل من بنى مدينة تَدمُر
نزل الإنسان القديم محيطَ مدينة تدمر، حيث تعود أقدم آثار لقاطِني تدمُر إلى العصر الحجريّ القديم؛ أي قَبْل 75,000 سنة مَضَت؛ حيث بُنِيت تدمر كمستوطنة صغيرة بالقُرب من واحة في وسط الصحراء في العصر الحجريّ، وقد ساعد توفُّر الماء، وخصوبة التربة على نشوء حضارة إنسانيّة في المنطقة، وبعد ذلك، أصبحت مُستعمَرة لبلاد ما بين النهرَين تحت الحُكم الآراميّ في الألفيّة الثانية قَبل الميلاد، ثمّ نزل العرب مدينة تدمر في الألفيّة الأُولى قَبل الميلاد، حيث شكَّلوا غالبيّة أهلها، وأصبح هناك نوعٌ من التعايُش والتواؤُم بين الحضارتَين، وقد استخدمَ العرب اللغة الآراميّة في شأنهم، كالنَّبَطيّين الذين استخدموا اللغة الآراميّة، ويرى الباحثون أنّ العرب أخذوا يزحفون إلى المناطق الخصبة التي تقع ناحية الشرق من أرض كنعان بعد أن سقطت دولة بابل، إذ كانت اللغة الآراميّة هي اللغة الدارجة في منطقة غرب الفرات، كما تظهر في بعض الكتابات الآراميّة بعضُ المفردات والمصطلحات العربيّة الأصيلة.
تاريخ تدمر
إنَّ المعلومات المُتوفِّرة عن مدينة تدمر في زمن الدولة البابليّة الحديثة، وفي عصر الدولة الأخمينيّة غير وفيرة، إلّا أنّ المعلومات تُؤكّد على أنّ مدينة تدمر كانت ذات أهمّية كبيرة في عهد الدولة السلوقيّة (312-64ق.م)؛ حيث إنّ المعلومات تُشير إلى أنّ مدينة تدمر كانت في عهد السلوقيّين مدينة مُزدهرة تحت حُكم الإمارة العربيّة، وحين تمّ الاستيلاء على تدمر من قِبَل الرومان في عام 64 قَبل الميلاد، أصبحت تدفع للروم الجزية، علماً بأنّ من أبرز حُكّام الروم الذين مَرّوا على تدمر: الإمبراطور تيبيريوس (بالإنجليزيّة: Emperor Tiberius)، كما أنشأ فيها الإمبراطور الرومانيّ تراجان فرقة نظاميّة من التدمُريّين؛ لتساندَ الجيش الرومانيّ، وأُنشِئت أوّل حامية رومانيّة في تدمر آنذاك، كما تمّ مَنح المدينة لقب (المدينة الحرّة) من قِبَل الإمبراطور "هادريان" في عام 129م، وترتَّب على ذلك إعطاء المدينة شكلاً من أشكال الحُكْم الذاتيّ، وإدارة أمورها، كفَرْض الضرائب ، وغيرها.
اتَّخذ التدمُريّون عائلة تدمريّة؛ لتوليتها الحُكم، وذلك في القرن الثالث الميلاديّ، حيث تولّى الحُكم آنذاك الملك أُذينة، وبعد وفاته هو ووليّ عهده في ظروف غامضة، تولّى الحُكم ابنه وهب اللات، إلّا أنّ صِغَر سنّه في ذلك الوقت جَعَل أمّه زنوبيا حاكمة على تدمر بالوصاية، ومن الجدير بالذكر أنّه خلال فترة حُكم زنوبيا، ازدهرَت المدينة، ووصلَت إلى حالة من الاستقلال عن الحُكم الرومانيّ، وتوسَّعت زنوبيا، واحتلَّت مصر ، والأناضول، وصولاً إلى بلاد الشام ، الأمر الذي أقلق الإمبراطور الرومانيّ أورليان، حيث حاولت الملكة زنوبيا مُقاومة الرومان، وسَيَّرت جيشاً لمواجهتهم، إلّا أنّ الجيش هُزِم على يد الإمبراطور أورليان الذي استولى على تدمر، وألقى القبض على الملكة زنوبيا.
وقد تمّ دخول مدينة تدمر من قِبَل المسلمين على يد الصحابيّ خالد بن الوليد صُلْحاً في عام 634م، ثمّ جاء العهد الأمويّ الذي ازدادت فيه المدينة أهمّيةً؛ وذلك لوقوعها بين قصرَي الحير الشرقيّ، والحير الغربيّ، واللذين بناهما هشام بن عبدالملك، وفي العهد العبّاسي أُهمِلت المدينة، ثمّ ضُرِبت المنطقة بزلازل في القرن العاشر الميلاديّ؛ الأمر الذي أدّى إلى هَدْم العديد من مبانيها، بالإضافة إلى حَصْد العديد من أرواح سُكّانها، وفي العهد الأيّوبي، والمملوكيّ ، رُمِّمت قلعة تدمر لتصبح قلعة فخر الدين المعني الثاني، كما تمّ ترميم جُدران معبد بل، وحُوِّل الهيكل إلى مسجد، إلى حين دخول تيمورلنك مدينة تدمر في أواخر القرن الرابع عشر الميلاديّ؛ حيث هَدَمها، وحَدَّ من أهمّيتها، ومكانتها، وتجارتها عبر التاريخ، وظَلَّت مُهمَلة، ومهجورة في عهد العثمانيّين ، كما أصبحت قرية تشكو وتعاني غزوات البدو.
المعالم الأثريّة
تزخرُ مدينة تدمر بالعديد من المعالم الأثريّة ، والطبيعيّة البارزة، والتاريخيّة التي تعود إلى حِقَب زمنيّة مختلفة، ومنها:
- معبد بل: ويعود بناؤه إلى القرن الأوّل الميلاديّ، حيث يتكوَّن من ساحة واسعة مُربَّعة الشكل، ومُغلَقة، وفي منتصفها الحَرَم (السيلا)؛ وهو بيت الصَّنَم الرئيسيّ، ويُحيط بهذه الساحة رِواق مُعمَّد بأعمدة تحمل عدّة تيجان كورنثيّة.
- معبد نابو: ويقع غربيّ قوس الشارع الطويل الذي يُعرَف باسم ( قوس النصر )، وقد بُنِيَ هذا المعبد في القرن الأوّل الميلاديّ بشكل شبه مُنحرِف، ويُحيط بالمعبد سورٌ خارجيّ فيه باحة، ويقع في منتصفها حَرَم.
- معبد بعل شمين: يقع في الجزء الشماليّ من المدينة، ويعود بناؤه إلى القرن الثاني الميلاديّ، حيث يتكوّن من حَرَم، وباحتيَن: جنوبيّة، وأخرى شماليّة بهما أروقة.
- معبد اللات: ويُوجَد في الحيّ الغربيّ من المدينة، ويعود بناؤه إلى القرن الثاني الميلاديّ، حيث يتكوَّن من باحة مستطيلة الشكل، تحتوي في منتصفها على حَرَم في مُقدِّمته رِواق يتكوَّن من ستّة أعمدة.
- معبد يلحمون ومناة: يقع في أعلى الجبل الغربيّ (المنطار)، وقد تمّ بناؤه في عام 88 للميلاد.
- الحمّامات: وتقع في المدخل، تتقدَّمُها أربعة أعمدة من مادّة الجرانيت ، ولها أقسام (البارد، والدافئ، والحارّ)، إضافةً إلى قاعة ثُمانيّة الشكل، في منتصفها فَسْقِيَّة (حوض كالنافورة)؛ لترطيب الجوّ، ومُلحَق بها مساحة مُخصَّصة للرياضة، والاجتماعات.
- المسرح: يتَّخذ المسرح شكل نصف الدائرة بقُطر 20 متراً، تُحيطُ به مُدرَّجات تبقّى منها 13 درجة.
- الشارع الطويل: ويمتدُّ هذا الشارع من المدخل الرئيسيّ لمعبد بل، وصولاً إلى بوّابة دمشق، ويتكوَّن من أربعة أقسام.
- مجلس الشيوخ: وهو عبارة عن بناء مستطيل، بداخله بناء يحتوي على مُدرَّج يُشبه حذوة الحصان.
- الأغورا: وهي تتكوّن من باحة مُربَّعة الشكل، ومُغلَقة، لها 11 مدخلاً.
- المصلبة (التترابيل): وتُشكِّل مُفترَق الطريقَين الرئيسيَّين في مدينة تدمر، حيث بُنِيَت كمَسْطبة عليها أربعة أعمدة من الجرانيت، وفي منتصفها تمثال فوق القاعدة.
- معسكر ديوقلسيان: يقع المعسكر فوق الحيّ الغربيّ، بما في ذلك القصر الملكي.
- الأسوار: حيث أنشأ سُكّان تدمر العديد من الأسوار المانعة والطويلة؛ نتيجةً لحركة التجارة، وتعدُّد الأخطار والاحتمالات المستقبليّة، وقد بلغ طول مُحيط هذه الأسوار 6كم، وعَرْضها ما بين 280-3000م.
- نبع أفقا (الحمام الكبريتيّ): وقد كان هذا النَّبع هو السبب وراء نشوء مدينة تدمر، ولا يزال هو شريانَ تدمر النابض في وسطها، حيث يتدفَّق ماء معدنيّ يحتوي على عنصر الكبريت، من كهف في قلب جبل المنطار، وبامتداد 350م، حيث تكون حرارة الماء ثابتة في فصول السنة جميعها، ويَصُبّ النَّبع مياهه بمُعدَّل 60 لتراً في الثانية الواحدة.
- الأعمدة التذكاريّة: تُوجَد في المدينة أعمدة تذكاريّة، بُنِيَت في عدّة أماكن كنُصُب تذكاريّة، وحافزٍ للأجيال القادمة، وذلك بأمر من مجلس الشيوخ والشعب، وتعود هذه الأعمدة إلى الأشخاص البارزين الذين ساهموا في نهضة وازدهار مدينة تدمر.
- الكنائس: حيث تُوجَد بعض هذه الكنائس منذ القرن الخامس الميلاديّ.
- هيكل الموتى: وهو مدفن يعود بناؤه إلى القرن الثالث الميلاديّ.
- قلعة فخر الدين: وهي المَعلَم العربيّ الأبرز في مدينة تدمر، وترجع هذه القلعة في أصلها إلى زمن الحروب الصليبيّة، حيث بُنِيت في عهد صلاح الدين الأيّوبي ، وهي ترجع في تسميتها إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني في بدايات القرن السابع عشر الميلاديّ.
تدمر في العصر الحديث
في عام 2016م، تعرَّض موقع مدينة تدمر إلى خراب ودمار؛ نتيجةً للمعارك التي دارت هناك، وقد أرسلت مُنظَّمة اليونسكو بعثة؛ لتقييم الأضرار التي حلَّت بمدينة تدمر، وقد عايَنَ الخبراء وكشفوا على كلٍّ من المتحف، والموقع الأثريّ لمدينة تدمر، ووجدوا أنّ معظم التماثيل، والتوابيت الحجريّة ثقيلة الوزن التي لا يُمكن نَقْلها إلى مكان آمن، قد تعرَّضَت للتخريب، والتحطيم، ومنها ما وُجِد مقطوع الرأس ومَرميّاً على الأرض ، وقد حدَّدت البعثة والخبراء فيها إجراءات، وتدابير طارئة؛ لتأمين بناء المتحف، والمحافظة عليه، بالإضافة إلى الأعمال اللازمة؛ من أجل توثيق كلّ ما يمكن إيجاده، وحفظه؛ وذلك لإخلائه، وحمايته، عدا عن أنّ العمل ما زال جارياً؛ لتوثيق الأضرار، ونَشْر التوعية وطنيّاً، ودوليّاً، في ما يتعلَّق بأهمّية الموقع، وضرورة المحافظة عليه كأحد أهمّ، وأقدم المواقع الأثريّة في العالَم.