مفهوم التناص في اللغة العربية
مفهوم التناص لغة واصطلاحًا
التناص مصدر من الفعل تناصَّ أو تناصص بفك التضعيف ويعني ازدحم، نقول تناصَّ الناس أي ازدحموا، وهو فعل مزيد معنى الزيادة فيه هو المُشاركة والازدحام أيضًا يتضمّن معنى المُشاركة، وهذا يُشير إلى وجود توافق بين المعنى المُعجمي والمعنى الصرفي للكلمة، ويُمهد للاستخدام الاصطلاحي الذي يتضمّن المُشاركة أيضًا.
التناص اصطلاحًا هو العلاقة التي تربط نصًّا أدبيًا بنصٍّ آخر أو استحضار نص أدبي داخل نص أدبيّ آخر، وهو مُرتبط بوجود علاقات بين النصوص المُختلفة، ويقوم على فكرة عدم وجود نص بدأ من العدم فكلّ نص موجود هو مُعتمد في وجوده على نص آخر إمّا في الفكرة وإما في استخدام التراكيب والألفاظ.
للتناص العديد من المُصطلحات التي تُقابله في اللغة العربية مثل: النصوصية، أو التناصية، أو التداخل النصي، أو التفاعل النصي، وكلها تُشير إلى ذات المعنى، وتُعد جوليا كريستيفا رائدة هذا المُصطلح حديثًا حيث ظهر هذا المُصطلح جليًّا ومُتكاملًا لأوّل مرّة في مقالاتٍ لها.
أصول التناص في الأدب العربي
للتناص شواهد كثيرة في الأدب العربي قديمًا تدلّ على وجود هذه الفكرة في ذهن الشاعر أو الناقد العربي، وإن كان التناص كمُصطلح ظهر حديثًا، إلّا أنّ الشعراء الجاهليين عبروا عن الفكرة بطريقتهم وضمّنوا التناص في الشعر ، حيث يقول عنترة بن شدّاد في مُعلّقته:
هَل غادَرَ الشُعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
- أَم هَل عَرَفتَ الدارَ بَعدَ تَوَهُّمِ
في البيت السابق إشارة واضحة إلى أنّ عنترة يعترف بأنّ من سبقه من الشعراء لم يتركوا مجالًا أو موضوعًا لم يتحدثوا فيه، وأنّه في قصيدته يُريد أن يتحدّث بما تحدّثوا عنه لكن بطريقته وأسلوبه، تجدر الإشارة إلى أنّ جدلًا واسعًا أُثير لدى العرب قديمًا فيما يخص فكرة التناص والسرقات الشعرية، ممّا دفع بعض الشعراء إلى درء هذه التهمة عن أنفسهم.
تجدر الإشارة هنا إلى قول أبي هلال العسكري أنّه لا يحكم على النص المُتأخر إذا أخذ من المُتقدم أنّه سرق منه، بل يعتبر التشابه في المعنى مع الاختلاف في اللفظ أمرًا طبيعيًا يُمكن أن يحدث دون أن ينفي صفة الإبداع عن النص المُتأخر وصاحبه.
التناص في النقد الحديث
أشرنا سابقًا إلى أن جوليا كريستيفا تعد رائدة هذا المُصطلح حديثًا، إذ إنها اعتبرت كلّ نص لوحة فسيفسائية من الاقتباسات من نصوص أخرى، فكلّ نص هو مُتضمّن لنص سبقه ولا بُدّ أنّه تفاعل معه ليخرج بصيغته الجديدة، كما عدَّ رولان بارت أنّ الأدب هو نص واحد وكلّ نص يتفاعل مع مجموعة نصوص سبقته ليُعيد توزيعها بشكلٍ جديد.
من الجدير بالذكر أنّ التناص في النقد الحديث لم يعد نقطة ضعف في النص أبدًا بل هو شيء حتميٌّ لا بُدّ من وقوعه، بالإضافة إلى ذلك أصبح يُعدّ إشارةً إلى سعة اطلاع الكاتب ومعرفته الثقافية وقراءاته المُتعدّدة، بل إنّ الكاتب المُتمكّن هو الذي يستطيع استحضار النصوص السابقة لنصّه بالشكل الذي يخدم نصّه.
أشكال التناص
يُقسم التناص إلى ثلاثة أشكال هي:
- التناص في الشكل والمضمون
حيث يكون التناص على مُستوى الشكل مُتعلق بالتراكيب اللغوية وتركيب الجمل، أمّا على مُستوى المضمون فهو يُعنى ببُنية النص، وما يتضمّنه من استعارة وتشبيه، بالإضافة إلى الأفكار المختلفة التي يُعبّر عنها كلّ كاتبٍ بطريقته.
- التناص الإجباري والاختياري
اتفق الدارسون على أنّ التناص يحدث من خلال المُحاكاة بنوعَيها: النقيضة، والمعارضة، فالكاتب الذي يُعارض يكون لديه نص يعتبره أنموذجًا ويسير على خُطاه، وهذا لا بُدّ من أن يتناصَّ مع من يُعارض وإن لم يكن حرفيًا فبالفكرة أو المضمون، أمّا النقيضة فهي تأتي لتهدم النص الذي سبقها وتُعيد بناءه من وجهة نظر الكاتب الجديد، وهي أيضًا تُعدّ مثالًا جليًّا على التناص.
مثال ذلك قول الفرزدق :
إِنَّ الَّذي سَمَكَ السَماءَ بَنى لَنا
- بَيتاً دَعائِمُهُ أَعَزُّ وَأَطوَلُ
ورد جرير عليه قائلًا: أَخزى الَّذي سَمَكَ السَماءَ مُجاشِعاً
- وَبَنى بِناءَكَ في الحَضيضِ الأَسفَلِ
- التناص الداخلي والخارجي
يُمثّل التناص الداخلي تناصُّ الكاتب مع نفسه في ذات النص أو في نصوص أخرى، مثل تكرار نفس الكلمة في أكثر من نصّ لديه، فتُصبح بمثابة كلمة مفتاحية يُعرَف بها، أمّا التناصُّ الخارجي فهو التشابه أو التماثُل بين نصوص مُختلفة لا تعود لنفس الكاتب.