ما هي اولى القبلتين
القبلة علامة وحدة الأمة
إنّ النّاظر في التّشريعات الناظمة لحياة المسلمين يجد أنّها زاخرةً بالعوامل التي تجمعها وتوحدّها تحت رايةٍ واحدةٍ، كما أنّها زاخرةً بالدّعوة إلى كلّ ما من شأنه أنْ يحافظ على هذه الوحدة لتظلّ كالشّامة بين الأمم، ولتحافظ على دورها الحضاري في الإنسانية؛ فهي الأمّة الوسط، ولكي تستديم الخيرية فيها؛ فهي أمّةٌ تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، ومن هنا فالمسلمون كلّهم اليوم يتّجهون إلى قبلةٍ واحدةٍ، ويؤدّون مناسك الحجّ في مكانٍ واحدٍ، ووقتٍ واحدٍ، كما أنّهم يصومون في شهرٍ واحدٍ، وصلواتهم الخمس المفروضة واحدةً، كما أنّ الدّعوة إلى المحافظة على هذه الوحدة تظهر في كثير من مجالات الحياة العامة؛ فالمؤمنون أخوة، ويشدّ بعضهم إزر بعض، ويسدّ القادر منهم ثغرة المحتاج، وبهذا التّرتيب القائم على تأصيل الوحدة الإسلامية قامت حضارة المسلمين ، وهذا المقال يناقش صورةً من صور هذه الوحدة، فيتحدّث عن قبلة المسلمين الأولى، وعن أهميتها، ودلالات اختيارها، ومعاني تحوّلها إلى البيت الحرام بمكة المكرمة.
الحكمة من تحويل القبلة
لا شكّ أنّ الأحداث المهمّة في تاريخ المسلمين لها دلالاتٌ وعِبرٌ ينبغي الوقوف عليها، واستشراف آفاقها، ومن ذلك حدث تحويل القبلة من بيت المقدس إلى بيت الله الحرام؛ فقد شكّل هذا الحدث:
- امتحانٌ واختبارٌ لامتثال جماعة المسلمين لأمر الله تعالى، وكشفٌ لما في قلوب المنافقين والمشركين واليهود من نوايا تجاه الإسلام وأهله؛ فقد امثل المسلمون لأمر الله، وقالوا: سمعنا وأطعنا، وعدّ المشركون هذا الحدث رجوعاً إلى دين آبائهم في الجاهلية، بينما استغلّ اليهود الحدث للتّشكيك بنبوّة النبي صلّى الله عليه وسلّم، وقالوا: لقد خالف بذلك قبلة من سبقه من الأنبياء، ولو كان نبيّاً حقاً لظلّ على قبلة بيت المقدس ، أمّا المنافقون فشرعوا بنشر إشاعاتهم المُغرضة، وأنّ محمداً لا يدري إلى أنْ يتّجه في مناجاة ربّه، ولأجل هذا قال سبحانه: (وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ)، ومن هنا شكّل حدث تحويل القبلة امتحاناً انكشف فيه من اتّبع الرّسول ممّن انقلب على عقبيه.
- حمل تحويل القبلة تأكيداً على نبوّة محمّداً صلّى الله عليه وسلّم، حيث أخبر القرآن الكريم عمّا سيقع به اليهود من أقاويلٍ وأكاذيبٍ وتشكيكٍ، وهذا أمرٌ غيبيّ، لذا فهو يؤكّد على خبر السّماء وتنزّل الوحي بما هو آتٍ على النبي عليه الصلاة والسّلام.
- تحويل القبلة حدث يكشف ضرورة أنْ يتميّز المسلمون عن غيرهم، وتلبية لرغبة النبي -صلى الله عليه وسلّم- بتأكيد خصوصية الأمة الإسلامية ظاهراً وجوهراً؛ لأنّ هذا من شأنة أن يولّد الشعور بالتّفرّد والتّميز عند المسلمين.
- تحويل القبلة فيه إشارةٌ إلى دور الأمة في شهادتها على الخلق يوم القيامة ؛ فهي أمّةٌ وسطٌ في منهجها وأحكامها، وهي كذلك أمّة وسطٌ في مكان قبلتها؛ فبيت الله الحرام في مكة المكرمة أوسط بقاع الأرض وسُرّتها.
- تحويل القبلة يحمل دعوة إلى تجريد الجاهلية من نعرتها وعصبيتها للمكان، حيث إنّ بيت الله الحرام مكانٌ يجدر أنْ يُجرّد من كلّ مظاهر الوثنية والشّرك، فقد بناه إبراهيم وولده إسماعيل -عليهما السلام- على أساس التّوحيد لله سبحانه.
أولى القبلتين
أولى القبلتين هو المسجد الأقصى ؛ فقد كان وجهة المسلمين في صلاتهم أوّل ما شُرعت، ولا تخفى دلالة البعد العقَدي من تحديد قبلةٍ واحدةٍ لكلّ المسلمين في أثرها في توحيد الأمة، ولعلّ ترك مثل هذه الأمر دون تحديدٍ لوجهته يضع النّاس في حال افتراق واختلاف، وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- يصلّي وهو في مكّة، بل وفي حضرة الكعبة المشرّفة مُتّجهاً لبيت المقدس ركعتين قبل طلوع الشمس ، وركعتين قبل غروبها، وقد ثبت استقبال المسلمين بادىء الأمر لبيت المقدس في صلاتهم، وفي هذا قول المولى سبحانه: (وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا)، وعن ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: (كان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُصلِّي وهو بمكةَ نَحْوَ بيتِ المقدسِ والكعبةُ بينَ يدَيهِ، وبعدما هَاجَرَ إلى المدينةِ سِتَّةَ عَشَرَ شهراً، ثم صُرِفَ إلى الكعبةِ)، وبالرّغم من البعد المكاني للمسجد الأقصى عن النبي -صلّى الله عليه وسلّم- وجماعة المسلمين، إلّا أنّه ظلّ قبلةً لصلاتهم ما يقارب أربعة عشر عاماً، ليبقى مرتبطاً في قلوبهم بل في عقيدتهم، ثمّ إنّ في إمامة الرسول -عليه الصلاة والسلام- بالأنبياء في المسجد الأقصى ليلة الإسراء والمعراج إشارةً لا تخفى على دور الأمة في قيادة البشرية، وأنّ الإسلام طوى كل الرّسالات التي سبقته تحت جناحيه.
خصائص المسجد الأقصى
لقد ارتبط المسجد الأقصى بأذهان المسلمين؛ نظراً لصلته الوثيقة بعقيدة المسلمين وتاريخهم، والأحداث الجِسام التي مرّت به، ومن أبرز ما يؤكّد ذلك:
- هو قبلة المسلمين الأولى، وقد سمّي المسجد الذي نزل فيه الأمر الرّباني بتحويل القبلة بمسجد القبلتين توثيقاً لهذا الحدث، وتأكيداً لأهميته.
- شاءت إرادة المولى -سبحانه- أن يكون المسجد الأقصى محطّةً في رحلة الإسراء والمعراج؛ فقد كان نقطة انطلاق النبي -صلّى الله عليه وسلّم- إلى السموات العلى، قال الله تعالى: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنْ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ).
- أذن الله بفتح بيت المقدس في العام الخامس عشر من الهجرة أثناء خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، الذي تسلّم مفاتيحها، وأعطى لأهلها أماناً اشتهر باسم العهدة العمرية.
- جعل الله -سبحانه- أجر الصلاة فيه مضاعفاً عمّا سواه من المساجد، عدا المسجد الحرام والمسجد النبوي، ومدح النبي -صلّى الله عليه وسلّم- شدّ الرّحال إليه والصلاة فيه، وذكر أنّه أرضُ المَحشرِ والمنشر، فقال: (صلاةٌ في مسجِدي هذا أفضلُ من أربعِ صلواتٍ فيهِ، ولنِعْمَ المصلَّى، هوَ أرضُ المَحشرِ والمنشَرِ، وليأتيَنَّ على النَّاسِ زمانٌ ولقَيْدُ سَوطِ، أو قال: قوسِ الرَّجلِ حَيثُ يرى مِنهُ بيتَ المقدسِ؛ خيرٌ لهُ أو أحبَّ إليه مِنَ الدُّنيا جميعاً). وقال أيضاً: (لا تُشَدُّ الرِّحالُ إلّا إلى ثلاثةِ مساجدَ: المسجدِ الحَرامِ، ومسجدِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ومسجدِ الأقصى).
- اختار الله -تعالى- بيت المقدس مقام الطائفة المنصورة في آخر الزمان، واشتداد الفتن ، حيث قال النبي صلّى الله عليه وسلّم: (لا تزالُ طائفةٌ من أمتي على الدينِ ظاهرينَ، لعدوِّهِمْ قاهرينَ، لا يضرُّهم من خالَفَهم، إلَّا ما أصابهم من لَأْواءٍ حتى يَأْتِيَهم أمرُ اللهِ وهم كذلِكَ، قالوا: يا رسولَ اللهِ، وأَيْنَ هم؟ قال: بِبَيْتِ المقدِسِ، وأكنافِ بيتِ المقدسِ).
- يعدّ المسجد الأقصى ثاني مسجد وضع لعبادة الله في الأرض بعد المسجد الحرام ، وفي هذا يقول أبو ذر رضي الله عنه: (قلتُ: يا رسولَ اللهِ، أيُّ مسجدٍ وُضِع في الأرضِ أولَ؟ قال: المسجدُ الحرامُ، قال: قلتُ: ثم أيٌّ؟ قال: المسجدُ الأقصى).