ما هي العصبية القبلية
تعريف العصبية القبلية
تعني العصبيّة إجمالًا الحثّ على نصرة الأولياء والأقرباء، ظالمون كانوا أو مظلومين، كما تعني الدّعوة إلى المدافعة، والمحاماة، والمطالبة في سبيل الأقارب والأولياء.
وهي في اللّغة مشتقّة من «العَصْب»، وهو: الطَّيُّ والشَّدُّ، وعصبَ الشّيء يعصبه عصبًا: طواه ولواه، وقيل: شدة، والتّعصب : المحاماة والمدافعة، وفي الاصطلاح قال الأزهري في "تهذيب اللغة": «والعصبيّة: أن يدعو الرّجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم، على من يناوئهم، ظالمون كانوا أو مظلومين».
عرفها بعضهم بأنّها رابطة اجتماعية سيكولوجية (نفسية) شعورية ولا شعورية معًا، تربط أفراد جماعة ما قائمة على القرابة ربطًا مستمرًا يبرز ويـشتدّ عـنـدما يـكـون هناك خطر يهدد أولئك الأفراد؛ كأفراد أو كجماعة. وعرفها آخرون بأنّها: التّلاحم بالعصب، والالتصاق بالدّم، والتّكاثر بالنّسل، ووفرة العدد، والتّفاخر بالغلبة والقوة والتّطاول».
للعصبيّة أنواع متعددة، وما سبق في تعريفها من أنّها تعصب ذوي القربى والتّحالف، وتضامن أبناء القبيلة؛ إنّما هو أصل معناها في اللّغة، وهو يعود إلى كلمة عصبة، غير أنّ معناها قد توسّع فيه بعد، فأُطلقت على أنواع أخرى من التعصبات، بحسب الغرض الّذي نشأت لأجله، والسّبب الّذي اعتمدت عليه، وإنّ من الصّعوبة البالغة حصر أنواعها، لكن يمكن أن نضرب أمثلة لها بعصبيات الجنس واللون واللّغة والمذهب والوطن والحزب والقوم والجنسيّة والنّسب.
أسباب العصبية القبلية
توجد عدة أسباب محتملة لتفسير أسباب ظاهرة العصبية القبلية وهي كالآتي:
- التوارث عبر الأجيال
التعصب ينتقل من جيل إلى جيل من الكبار إلى الصغار، إذ يتعلم كثير من الأبناء التّعصب من آبائهم وأساتذتهم، وفي المجتمعات المتعصبة، تجد قيم التعصب تعزيزًا لها في إطار المؤسسات والقوانين والعادات، وقد أدرك علماء الاجتماع احتمال أن يكون بعض النّاس أكثر تعصبًا من أُناس آخرين، ويعتمد هذا الاختلاف على التّباينات في خلفية الفرد نفسه وتجاربه. [4]
- الصور النمطية
ينطلق التعصب من تصورات مسبقة تأخذ طابع نمذجة يصنف فيها النّاس إلى فئات اجتماعيّة ودينيّة وعرقيّة تنسب إليها مجموعة من الصّفات والخصائص العامة، وتعود التصورات النّمطية إلى تركيبة ثقافية يكتسبها الطفل من محيطه الاجتماعي خلال تنشئته المبكرة، إذ تُنسب صفات محددة إلى مختلف الفئات الاجتماعية والدينية مثل: الخيانة والغدر والإلحاد والمذلة وغيرها من السمات السلبية.
يشكّل اكتساب التّصورات النّمطية منطلقا أساسيًا لحدوث التّعصب، فبمجرد مصادفة أيّ فرد من الفئة التي يحمل الشخص تصورات نمطية عنها تتبادر الأفكار السلبية إلى ذهنه تلقائيًا، كأن يُقال إنّ الإنجليز يتّصفون بالبرودة، وأنّ الأمريكيين يتّصفون بالسّطحيّة، وعند مصادفة شخص ما لا يمكن معرفة ما إذا كان إنجليزيًا أو أمريكيًّا، ولكن بمجرد معرفة جنسيته فإنّ حامل التّصور النّمطي يسترجع من حاسوبه العقلي كلّ الصّفات غير المحسوسة الّتي تعلّم إلصاقها بجماعة هذا الشخص.
- العوامل الثقافية
تلعب العوامل الثّقافية دورًا مهم في تغذية التّعصب؛ فبعض الأيديولوجيات الصّريحة أو الضّمنيّة تعمل على بناء التّعصب ضدّ بعض الجماعات الإنسانيّة، فكثير من الأيديولوجيات العنصرية تستند إلى ادّعاءات علمية، مثل: إنّ أحد الأجناس أفضل بيولوجيًا من الأجناس الأخرى، أو من الكتب المقدسة: مقولات شعب الله المختار، أو تاريخه: التشكيك في الدور السياسي لجماعة معينة.
- الخطابات والأعمال الأدبية
بعض الخطابات الّتي لا تخلو في كثير من الأحيان من بعض التّلميحات أو التّصريحات الّتي تُحرّض على الإحساس بالتّمايز وتعزيز الحسّ الطّائفي بين الطّوائف، كما أن بعض الكتب والروايات الّتي تأخذ لبوسًا أدبيًا بينما هي تبثّ بعض السّموم القائمة على تعزيز مفاهيم وقيم الإحساس الطّائفي بين الطّوائف.
آثار العصبية القبلية وخطرها على المجتمع
للعصبية القبلية آثارٌ خطرة على المجتمع نذكر منها الآتي:
- الطبقـيّة
لقد كان أهل الجاهليّة يعاملون الناس حسب منازلهم ودرجاتهم، ويُعملون مبدأ عدم التكافؤ بين النّاس، فقد كان هناك سادة القوم وأشرافهم من أمراء العرب، ورجال الدين، والتّجار، ورؤساء العشائر، والشعراء، وغيرهم.
بالإضافة كان هناك من ينتمون إلى الطّبقات الدّنيا؛ كالفقراء، والصّعاليك، والمحتاجين، وأبناء السبيل ، وأصحاب الحرف اليدويّة، بالإضافة إلى العبيد وغيرهم، وكانت هناك طبقات وبيوت ترى لنفسها فضلًا على غيرها وامتيازًا، فتترفّع عن النّاس، ولا تشاركهم في عادات كثيرة، حتى في بعض مناسك الحج.
- القتل العشوائيّ
لا شكّ أنّ معاقبة الجاني والثأر منه أمر جائز، فقتل القاتل مثلًا شيء لا يُنكره شرع ولا عقل ولا عُرف، إنّما المذموم هو قتل غير القاتل بحجة أنّه من آل فلان، أو ترك القاتل لأنّه ليس كفئًا للمقتول، ثمّ السّعي في قتل من هو كفء للمقتول وإن كان بريئًا، وهو ما كان سائدًا في العصر الجاهلي.
فقد كان من خلق القوم في الجاهليّة: الحرص على الأخذ بالثأر على أي حال، واستثارة الهمم للقتال، ليتمثّل بذلك صون كرامته، والحفاظ على هذه الكرامة إنّما هو حفاظ على حياته نفسها، فإذا وجب الثأر دفاعًا عن الحرمات وحفظًا للكرامة، فإنّ المنيّة عند العربيّ خير من إعطاء الدّنيّة.
- كثرة الحروب
إنّ "النُّعَرَة" وهي الصّياح ومناداة القوم بشعارهم من أجل الاستغاثة بهم، وحثّهم على الحرب هي مظهر أساس من مظاهر العصبيّة، وحين ينادي أحد قومه؛ فلا بد من إجابته، دون النظر إلى طبيعة موقفه، أو فعله، هل هو ظالم أو مظلوم، ومن ذلك قول قريط بن أُنيف أحد بني العنبر:
قوم إذا الشّرّ أبـدى ناجذيه لهم
طـاروا إليه زرافات ووحـدانا
لا يسألون أخاهـم حـيـن يندبهـم
في النّائبات على ما قال برهانا.
العصبية القبلية في الشعر الجاهلي
كان للتّحدي البيئيّ والتّاريخيّ دور حاسم في خيار الجاهليين على مستوى البناء الاجتماعي، حيث معطيات الجدب والقحط وندرة الأمطار، جعلته يتّخذ صورةً واحدةً تقوم على النّظام القبليّ؛ فالرابطة القبلية هي الهوية والاستراتيجية، الّتي ستأخذ الدّور الحاسم في تشكيل الوعي العربي في العصر الجاهلي.
تجسّمت هذه الرابطة بالعصبية الّتي تعدّ قوام الحياة القبلية، وتعني وحدة القبيلة باعتبارها كُلًا سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، وهي المرجعية والشّرعية الأخلاقية؛ إذ الحقّ والخير، هو حق القبيلة وخيرها. وهذه البنية الاجتماعية لم تنشأ في فراغ، وإنّما صنعتها البيئة الصحراوية التي لا تتّسع للتّجمعات الكبيرة، بل تتّخذ وحدات اجتماعية تُناسب إمكانات البيئة.
وهذه التّنظيمات ينبغي أن تكون قادرة على التّماسك والحركة في آن معًا. ومن هنا كانت القبيلة هي الوحدة الأساسية في بناء المجتمع الجاهلي، وهي وحدة سياسية، وقد تدعو الظروف الطبيعية مثل: الجفاف أو الظروف البشرية الاستثنائية كالحرب إلى تكوين تحالفات أكبر، وقد تتجزّأ القبيلة ذاتها، لكنّ الجزيرة العربية ظلّت محافظةً على هذه الوحدات القبلية.
تمتدّ ذات الشّاعر الجاهليّ بقدر تجلّيات القبيلة في حقيقة الأمر، فهي مانحة الهوية الفردية، وصانعة مجال الحرية، والقدرة على البوح، يقول تميم بن أبي بن مقبل:
فقل للّذي يبغي عليّ بقومه:
أحدا تقول الحق أم أنت تمزح؟
بنو عامر قومي، ومن يك قومه
كقومي يكن فيهم له متندَّح