ما سبب نزول سورتي الفلق والناس
علم أسباب النُّزول
اهتمَّ علماءُ التَّفسيرِ في معرفةِ أسبابِ نزول سورِ القرآنِ الكريمِ وآياتِه، والحوادثِ المُتعلِّقةِ بها؛ لحاجةِ فهمِ وتدبُّر الظُّروفِ التي حلَّت بها الآياتُ ونُزِّلت على رسول اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، واستيعابِ الرَّسائلِ الربانيَّةِ المُرادةِ من الآياتِ، وإمكانِ تفسيرِها على النَّحوِ الأقربِ للصحَّةِ، ومعرفةِ مَقاصِدها ومُتعلِّقاتِها من الأحكام . وفي مَعرِفةِ أسبابِ نُزولِ الآياتِ تيسيرٌ لِفهمِ المعاني المتضمِّنةِ فيها، والمُحتواةِ في تركيبتِها وترتيبِها، وفَهمِ مفاهيمِها المُجمَلةِ دونُ الوُقوعِ في الإيهامِ والاحتمال، فالعلم بالسَّببِ يُورّث العلمَ بالمسبِّب.
وفي ضرورةِ التمرُّسِ في أسبابِ النُّزولِ خِدمةُ التَّفسيرِ وبيانُه، وفي ذلكَ أنَّ بعضَ الآياتِ أُشكِلت على بعضِ الصَّحابةِ حتَّى لم يجدوا لها فهماً، فلمَّا تبيَّنَ لهم سببُ نُزولِها توضَّحت غاياتُها واستَبانَت معانيها، وتَظهرُ الحاجةُ لِمعرفةِ أسبابِ النُّزولِ في تفسيرِ ما صعُب من الآياتِ فاستَعصى فهمه وامتَنَع، والغايةُ موقوفةٌ على فَضلٍ لا على جَدل، فلا تعني الحاجةُ لِمعرِفةِ تفاصيلَ الأحداثِ المُقتَرِنةِ بآيةٍ مُعيَّنةٍ تعميمَ الفكرةِ واشتِراطِها لجميعِ الآيات ، ولا تلمُّسِ الأسبابِ لكلِّ آيةٍ أو سورةٍ نَزلَت في كِتابِ الله؛ ذلكَ أنَّ آياتِ القرآن الكريم نَزلَت في ظروفٍ مُختَلِفةٍ، فمِنها ما كانَ مَخصوصاً بعقائِدِ الإيمانِ والواجباتِ والشَّرائِع، ناظماً لحياةِ النَّاسِ مُمهِّداً لها، ومِنها ما كانَ نزولُه مقروناً بِحوادِثَ مخصوصةٍ، أو مُجيباً على أسئلةٍ، أو مُبيّناً لأحكامِ تخصُّ الوقائع، ولا يَجوزُ القولُ في أسبابِ النُّزولِ تنطُّعاً وارتِجالاً، بل هي موقوفةٌ على ما وَرَدَ عن رَسولِ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام تواتراً، وحكمُها كحُكمِ الحَديثِ في قبولِه أو ردِّه.
سبب نزول سورتي الفلق والنَّاس
يُذكرُ في سيرة الرَّسول عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام أنَّ رجلاً من بني زُريقَ يهوديٌ، اسمه لبيدُ ابن الأعصمِ، سَحر الرَّسولَ الكَريم بِمُشاطةٍ لهُ، أعانَه عليها يهوديٌ كانَ يخدِمُ الرّسول عليه الصَّلاةُ والسَّلام، ومَعها عدَّةُ أسنانٍ من مشطِ الرَّسول، فأعقَد لبيدٌ السِّحرَ في المُشاطة ثمَّ ألقاها في بئرٍ لبني زُريق وقيل في بئرِ ذروان، فأعمَلَ السِّحرُ في رَسولِ اللهِ وأمرَضَه حتَّى انتثَر شعرُ رأسه، واستمرَّ مَرَضهُ ستّة أشهرٍ، وبَلغَ فيهِ أشدَّ ما يجدُ المسحور، فكانَ يرى أنَّه يأتي النِّساء ولا يأتيهن، وجعلَ يذوبُ ولا يَدري ما عَراه، وفي ذلكَ ما رُويَ عن رسولِ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ في حديثِ السِّحر، حتّى جاءَهُ مَلَكانِ وهو نائمٌ، فجَلَسَ أحدهُما عندَ رأسِهِ والآخرُ عند رِجليهِ فأفتَياهُ في حالِهِ وفي مَكانِ سِحرِه، إذ قالَ الذي عندَ رأسِهِ للذي عندَ قدميهِ: ما بالُ الرَّجل؟ فأجاب: طُبَّ، فسأله: ما طُبابَته؟ فأجاب: سِحرٌ، فسألهُ: ومَن سحره؟ فأجاب: لبيدُ بن الأعصم، فسألهُ: وبمَ طبَّهُ؟ فأجابَ: بِمشطٍ ومُشاطةٍ، فسألهُ: وأين هو؟ فأجاب: في جُفِّ طَلعةٍ تحتَ راعوفةٍ في بئرِ ذَروان.
فلمَّا انتَبَه رسولُ اللهِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام خاطَبَ عائشةَ رضي الله عنها فقال: أما شَعرتِ أنَّ الله أخبرني بِدائي؟ فأرسَل نفراً من الصَّحابةِ فاستخرَجوهُ ثمَّ فَكُّوا عُقَده، وقيل، فأرسلَ عليّاً بن أبي طالبٍ والزُّبير بن العوَّامِ وعمَّار بن ياسر، فنزحوا ماءَ البِئرِ ثمَّ رفعوا الصَّخرة واستَخرجوا المُشاطةَ، وقيل، إنَّ رسولَ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ أتاها في نَفَرٍ من أصحابِه، وفي ذلكَ ما وصَفَ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ البئر لعائِشة إذ قال: (هذه البئرُ التي أُريتُها، وكأن ماءَها نُقاعَةُ الحِنَّاءِ، وكأن نخلَها رُؤوسُ الشياطينِ)، فلمَّا استَخرَجوا المُشاطةَ فإذا فيه وَترٌ معقودٌ فيهِ إحدى عشرة عُقدةً مغروزةٌ بالإبَر، فَجاءهُ جبريلُ عليهِ السَّلامُ بالمُعوِّذتينِ، فَجعَلَ يقراُ من آياتِها، فكانَ كلَّما قرأَ آيةً حُلَّت عُقدةٌ، فوَجدَ الرَّسولُ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ من أثرِ حَلِّها خِفَّةً، حتَّى إذا قرأَ آخرَ آياتِها انحلَّت العُقدةُ الأخيرةُ فقامَ كأنَّما نَشِطَ من عقالٍ، فكانَ فيهِ شِفاءُ الرَّسولِ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام، وقيلَ جاءهُ جبريلُ عليه السَّلامَ فرقاهُ فجعلَ يقول: (باسمِ اللَّهِ أرقيك من كلِّ شيءٍ يؤذيكَ من حاسدٍ وعينٍ اللَّهُ يَشفيكَ)، وأقرأهُ المعوِّذتينِ الفَلقُ والنَّاس، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَا نَقْتُلُ الْخَبِيثَ؟ فَقَالَ: (أما واللهِ فقد شفاني اللهُ، وأكرَهُ أن أُثيرَ على أحدٍ من الناسِ شَرًّا).
فضل سورتي الفلق والنَّاس
فضَّلَ الله القرآن الكريمَ الذي أنزله على رَسولِهِ معجزاً ومُتواتراً على سائرِ كُتبِه، ثمَّ زادَ فضلَ بعضِهِ على بعضٍ فيما حملَ من معانٍ ومَدلولاتٍ احتوتها بعضُ سوره أو آياتِه، وخلا منها بعضها، وإنَّما تفاضُلُ سور القرآنِ فيما تحتويهِ من هذه المعاني، وكلُّها عظيمةٌ لأنَّها كلامُ الله ووحيه إلى نبيِّهِ محمد عليه الصَّلاة والسَّلام، وفي فضلِ المُعوِّذتينِ الفلق والنَّاسُ أحاديث وحوادث، منها ما خُصَّ به نزولهما في إبراءَ الرَّسولِ واستشفائه من مرضِه الذي أصابه عند سحرِه؛ إذ كان من فَضلِ المُعوِّذتينِ أنَّها كانتا إذا قُرِأ من آياتِها حُلَّت عُقدةٌ ممّا سُحرَ به الرَّسول عليه الصَّلاة والسَّلامُ حتى شُفيَ بِتمامِهما، وفي ذكرِ فَضلِهما ما رُويَ عن رَسولِ الله عليهِ الصَّلاةُ والسَّلام: (اتَّبعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ وَهوَ راكِبٌ فوضعتُ يدي على قَدمِهِ فقُلتُ: أقرِئني يا رسولَ اللَّهِ سورةَ هودٍ، وسورةَ يوسُفَ. فقالَ: لَن تقرأَ شيئًا أبلغَ عندَ اللَّهِ من قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ، وَقُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)، وفي رواية (ألم تر آياتٍ أُنْزِلَتِ الليلةَ لم يُرَ مثلهن قط ؟ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ وقُلْ أَعُوُذ بِرَبِّ النَّاسِ)، وفي هذه الأحاديثُ بيان فضل المُعوِّذتين، إذ يتعجَّبُ الرَّسولُ عليهِ الصَّلاة والسَّلامُ من عِظَمِ فضلِهما، فما نَزلت سورةٌ في القرآنِ الكريمِ بِمثلِ ما فيهما من المعاني والبَركات، فكانتا فَرجُ الله للمتعوِّذ بهما، ففيهما إلتجاءُ العبدِ لِربِّه وطلب الحمايةِ بهِ من جميعِ مخلوقاتِه.