ما حكم الهجر
إنّما المؤمنون أخوةٌ
يحرص الإسلام على توثيق عرى التّعارف والتّآلف بين النّاس عموماً، والاجتماع على خير البشرية؛ فقال الله سبحانه: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا)، ودعا أتباعه إلى تعميق أواصر المحبّة والمودّة فيما بينهم؛ فقال تعالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ)، وحثّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- المسلمين في شواهدٍ كثيرةٍ على إفشاء السّلام، ونشر المحبّة بين عباد الله، ومن هنا فإنّ الدّعوة إلى التّعاون على البرّ والتّقوى بحاجةٍ إلى التّواصل البنّاء ،والمعايشة الصالحة، واللقاء الإيجابيّ، وبالرّغم من كلّ هذا؛ فإنّ الإسلام يقرّ بأنّ التنوّع والاختلاف بأطباع البشر قد ينشأ عنه سوء فهم يؤدّي إلى التّنازع والمشاحنات والخصومات، ويقود بعض هذا النّزاع إلى الهجران والقطيعة، وقد كان للشّرع الحنيف موقفاً واضحاً من هذه المسألة، وهذا المقال يسلّط الضّوء على حكم الهجر في الإسلام.
حكم الهجر في الإسلام ومسائله
تتعدّد مسائل الهجر في حكمها تبعاً للغايات والمقاصد، وصِلتها بالنّص الشرعي، ومن هنا فقد فصّل أهل الفقه في المسألة على وجوه، ويمكن إجمالها فيما يأتي.
حكم الهجر في الإسلام
- الأصل في المسألة أنّه لا يجوز لمسلمٍ أنْ يهجر أخاه فوق ثلاثٍ، تِبعاً لهوى نفسه، وهذا يعني أنّه يجوز للمسلم أنْ يهجر أخاه ثلاث ليالٍ أو أقلّ، ومستند ذلك ما جاء في الصحيح أنّ النبي -صلّى الله عليه وسلّم- قال: (لا يحلُّ لمسلمٍ أن يَهْجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ، يلتقيانِ فيُعرِضُ هذا ويُعرِضُ هذا، وخيرُهُما الَّذي يبدأُ بالسَّلامِ)، وقد حذّر النبي -صلّى الله عليه وسلّم- من خطورة الهجران فوق ثلاث ليالٍ؛ لأنّه يصبح سبباً لمنع مغفرة الله تعالى؛ ففي الحديث الصحيح: (تُفتَحُ أبوابُ الجنَّةِ كلَّ يومِ اثنينِ وخميسٍ؛ فيغفِرُ اللهُ -جلَّ وعلا- لكلِّ عبدٍ لا يُشرِكُ باللهِ شيئاً، إلَّا رجُلاً بينَه وبيْنَ أخيه شحناءُ، فيُقالُ: أنظِروا هذينِ حتَّى يصطلِحا، أنظِروا هذينِ حتَّى يصطلِحا).
- حقّق العلماء مسألة الهجر تبعاً للنّصوص الشّرعية الواردة فيها؛ فقالوا: إنّ حكم الهجر تابع لأحوالٍ ثلاثٍ:
- إذا ترجّحت مصلحةٌ من الهجر فعندها يكون مطلوب شرعاً.
- إذا ترجّحت مفسدةٌ من الهجر فحكمه النّهي قطعاً.
- إذا استوى الأمر بين المفسدة والمصلحة فالأقرب للصواب أنّه ينهى عنه، لعموم قول الرسول صلّى الله عليه وسلّم: (لا يحلُّ لمسلمٍ أن يَهْجرَ أخاهُ فوقَ ثلاثِ ليالٍ).
- الواجب في حقّ المسلم أنْ يكون واسع الصّدر مع إخوانه، بعيد النّظر في مآلات الأمور والأفعال، وهذا يدعوه إلى تحمّل هفواتهم وأخطائهم، والعفو عن زلّاتهم، لئلا يستعجلُ في أمر الهجر؛ فتوصله للقطيعة المحرّمة.
الحالات التي يجوز فيها الهجر
بعد أنْ اتّضح الحكم الشرعي للهجر، وأنّ الهجر المباح أنْ لا يتجاوز ثلاثة ليالٍ كما تقدّم تفصيل ذلك بالدّليل الشرعي؛ فإنّ هناك حالاتٌ تستثنى من عموم هذا الحكم، وقد أبان عنها العلماء، وكشفوا عن مسائلها، وبيان ذلك فيما يأتي:
- الحالة الأولى: عدّ جمهور أئمة الفقه الابتداع في العقيدة من الأسباب المشروعة للهجر، كما أوجبوا هجر من يجاهر ببدعته، ويدعوا غيره إليها.
- الحالة الثانية: أجمع أهل العلم على جواز هجران من كان في قُربه بُعداً عن الله تعالى، والعلاقة معه تقتضي نقصاً في الدّين.
- الحالة الثالثة: يجوز هجر من يكون سبباً في إيقاع مضرّةٍ في غيره، سواءً كان هذا في نفسه أو دنياه ومعاشه؛ فالهجر الجميل أفضل بكثيرٍ من مخالطةٍ وعلاقةٍ فيها أذى.
- الحالة الرّابعة: يعدّ هجر أصحاب المعاصي ، الذين يجاهرون بها من أسباب الهجر الشرعيّ فوق ثلاث ليالٍ، فقد هجر رسول الله -عليه السلام- الذين تخلّفوا عن غزوة تبوك من غير عذرٍ.
- الحالة الخامسة: يجوز هجر الزوجة النّاشز فوق ثلاث، مع التّأكيد على أنّ هجرها يكون في المضجع والمعاشرة الزّوجية، وليس هجراً عاماً، وقد قال الله عزّ وجلّ: (وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ)، وأنّ من شروط إباحة هذا الهجر الخاص بالزوجة النّاشز أنْ يكون بعد وعظها ونصحها، على اعتبار أنّ الهجر علاجاً لا يُلْجأ إليه إلّا إذا غلب على الظنّ أنّه أنفع من الوصل، وإلّا فلا.
- يجوز للمسلم إذا هجر أحداً ضمن الأسباب المذكورة أنْ يردّ السّلام ولو بصوتٍ منخفضٍ، إذا كانتْ المصلحة تقتضي ذلك الإسرار أو الخفض.
الحكمة من جواز الهجر ثلاث ليال
استشرف أهل الدراية في مقاصد الشريعة والأحكام أنّ الحكمة الشرعية المُرادة من جواز هجر المسلم أخاه ثلاث ليالٍ هي أنّ يسكنَ الغضب ، وتهدأ النّفس من دواعي الشحناء، ذلك أنّ الأمر الذي حمل على الهجر يزول بانقضاء هذه المدّة، لذا حرّم الشّرع الزّيادة فيها وفق ما تمّ بيانه، وقد تجاوز الشّرع عن الهجر في الثلاث ليالٍ مراعاةً لحال الإنسان عند نشاط غضبه، وربّما كان للإنسان حين غضبه حظّاً لنفسه، أو عقد أمره على أنْ لا يعفو عن أخيه؛ فسومِح في تلك الفترة لزوال أثر تلك الانفعالات عنه.
مضار الهجر
لا ريب أنّ الهجر صفةً تستجلب سخط الله سبحانه، وعقابه على الهاجر والقاطع، وهي كذلك سببٌ في منع وتأخير مغفرة الله لعباده، والهجر حبلٌ من حبائل الشيطان الكثيرة، إذ ينفذ من خلالها لإغواء النّاس وإفسادهم، ويعرّضهم لدخول جهنّم ، ومعلوم أنّ الهجر إذا تعدّى الحدود الشرعيّة بطبيعته ومدّته؛ فإنه يسبّب مشكلاتٍ اجتماعيةٍ متعدّدةٍ، ومن أهمّها تّفكّك روابط العقد الاجتماعية بين أبناء المجتمع الواحد.