ما الحكمة من تكرار آية فبأي الاء ربكما تكذبان
فضل سورة الرحمن وسبب نزولها
نزل القرآن الكريم على النبي محمدٍ -صلّى الله عليه وسلّم- متتابعاً بحسب المواقف، والظروف التي يمرّ بها، ومن ذلك نزول سورة الرحمن، حيث كان نزولها لأكثر من سببٍ ذكره العلماء، فقد قيل إنّ سبب نزولها يتمثّل بأنّ المشركين الذين تساءلوا عن الرحمن، حين نزلت الآية الكريمة: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا)، فقد كان جزءٌ من الإجابة على كلامهم، التعريف بالرحمن، في سورةٍ كان مطلعها اسم الله -تعالى- الرحمن، وقد ورد كذلك أنّ المشركين زعموا أنّ القرآن الكريم هو تعليم أحد البشر للنبي صلّى الله عليه وسلّم، فأنزل الله -تعالى- سورة الرحمن؛ ليؤكّد أنّ القرآن هو تعليم الرحمن للنبي محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، وورد أيضاً من أسباب نزول سورة الرحمن، أنّ أبا بكرٍ -رضي الله عنه- قد ذكر يوم القيامة مرّةً؛ فخاف وجزع من أحداثه ووزنه، ومن ذكر الجنة والنار، فقال: (وددتُ أنّي كنتُ خضراءَ من هذه الخضر تأتي على بهيمة تأكلني، وأني لم أُخلَق)، فأنزل الله -تعالى- قوله: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ).
وأمّا مميزات وفضائل تلك السورة الكريمة فإنّها كثيرةٌ، فإنّ أسلوب الآيات وتنسيق الكلمات فيها بديعٌ، وافتتاحها باهرٌ بذكر اسمٍ من أسماء الله الحسنى؛ وهو الرحمن ، وقد عدّد الله فيها الكثير من النعم على الإنسان، وامتنّ عليه بها، وقد كان أولها: أن علّم الإنسان القرآن، وإنّ الله -تعالى- قد استخدم فيها أسلوب الترغيب والترهيب، إذ ذكر شيئاً من أهوال يوم القيامة، وعذاب المجرمين الأشقياء، ثم ذكر شيئاً من التفصيل المقام الرفيع للمؤمن صاحب الخشية لله تعالى، وذكر التحدّي من الله -تعالى- للثقلين؛ الإنس والجنّ، بأن يكذّبا كلّ تلك القدرات والنعم، والتجلّيات التي أوضحها الله في كونه، وكلّ تلك المميزات ظهرت جليّاً في السورة.
الحكمة من تكرار الآية
إنّ ممّا ميّز سورة الرحمن عن سواها، ورود آيةٍ تكرّرت إحدى وثلاثين مرّةً، والآية الكريمة هي قول الله تعالى: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، ولقد كرّر الله -سبحانه- استخدام بعض الآيات في القرآن الكريم، ومنها تلك الآية الكريمة، التي جاء تكرارها لهدفٍ مميزٍ عن سواها؛ وهو التكرار لتوكيد النِعم، والتذكير بها، فإنّ الله -تعالى- قد عدّد الشيء الكثير من النعم في سورة الرحمن، وكان في كلّ مرةٍ يذّكر في تلك الفضائل والنعم، بقوله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ)، فواجب المؤمن أن يدرك فضل الله -تعالى- عليه، وأنّه المستحق للشكر والطاعة ، بما امتنّ الله به على عباده، وألّا يكذّب المسلم أو ينكر شيئاً من تلك الأفضال، قال ابن قتيبة: (من مذاهب العرب التكرار للتوكيد والإفهام، فلمّا عَدَّد اللهُ -تعالى- في تلك السورة نعماءَه، وأذكَرَ عِبَادَه آلاءَه، ونبَّههم على قُدرته، جعل كلّ كلمةٍ من ذلك فاصلةً بين كلّ نِعمتين، ليُفَهِّمهم النِّعم ويُقَرِّرهم بها، كقولك للرجل: أَلم أُبَوِّئْكَ مَنْزِلاً، وكنتَ طريداً؟ أفتُنْكِرُ هذا؟ ألم أحُجَّ بك وأنت صَرُورَةٌ وهو من لم يحج سابقاً، أفَتُنْكِرُ هذا).
التكرار في القرآن الكريم
ورد ذكر بعض الآيات الكريمة أكثر من مرةٍ في القرآن الكريم، سواءً في نفس السورة، أو في سورٍ مختلفةٍ، ويُقصد بالتكرار في ذكر الآيات الكريمة، بأن تتكرّر الجملة، أو الكلمة عدّة مراتٍ، لتفيد التوكيد، أو التهويل، أو التعظيم ، أو ما سوى ذلك، ويعدّ التكرار الوارد في القرآن الكريمة، من الفصاحة والجمال في اللغة، وحتى يُفهم ذلك، فقد فصّل العلماء الغرض من التكرار في كلّ آيةٍ تكرّرت في القرآن الكريم، وفيما يأتي ذكرٌ لبعض أنواع التكرار المستخدم في القرآن الكريم، وأمثلةٌ على ذلك من الآيات القرآنية:
- تكرار اللفظ والمعنى: وهو أن يتكرّر اللفظ في أكثر من موضعٍ، ولا يُقصد فيه نفس المعنى، وهو على شكلين كذلك: مفصولٌ وموصولٌ:
- موصولٌ: كتكرار كلمةٍ من ضمن آية؛ كقول الله تعالى: (هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ)، وقوله: (كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا).
- مفصولٌ: كبعض الآيات التي تكرّرت كاملةً، سواءً أكان ذلك في نفس السورة، مثل قول الله تعالى: (وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ)، فتكررت في سورة الشعراء، ثماني مرّاتٍ، أم في سورةٍ مختلفةٍ، مثل الآية الكريمة: (وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)، فتكرّرت في ست سورٍ مختلفةٍ؛ هن: سورة يونس، والأنبياء، والنمل، وسبأ، ويس، والملك.
- تكرار المعنى دون اللفظ: وهو تكرار الحديث في مضمونٍ واحدٍ، دون استخدام نفس الألفاظ وترتيبها، مثل ذكر قصص الأنبياء ، أو الحديث عن الجنة والنار ، والساعة، وغير ذلك.
وفي الحكمة من ذلك قال ابن تيمية بأنّه لا يوجد تكرارٌ محضٌ في القرآن الكريم، بل إنّ كلّ ذكرٍ للآية أو الكلمة في مكانها، لها معنى أراده الله سبحانه، فعلى سبيل المثال، قد وردت قصة موسى مراراً في القرآن الكريم، إلّا أنّه في كلّ موضعٍ من ذلك أراد الله -سبحانه- استدلالاً مختلفاً عن المواضع الأخرى، وكذلك فقد ذكر القرآن الكريم أسماءً كثيرةً للنبي محمدٍ صلّى الله عليه وسلّم، إلّا أنّه قصد ذاتاً واحدةً من كلّ منها، مع تعدد الدلالات لكلّ اسمٍ عن الأسماء الأخرى، وكذلك الأسماء التي أطلقت على القرآن الكريم، منها: قرآنٌ، وفرقانٌ ، وهدى، وبصائر، وشفاءٌ، ونورٌ ، وكلّ واحدٍ منهم ذكر معنى مختلفاً عمّا سواه، ولحكمةٍ شاءها الله تعالى.