قضية الصدق والكذب في الشعر
مفهوم الصدق والكذب في الشعر
الصّدق في الشّعر هو ربط كل تفاصيل الشّعر بالصّدق؛ أي الصّدق في التشبيه، والصّدق في الشّاعر، والصّدق في القصيدة، فالصّدق هو السّلامة من الخطأ في اللفظ والتّركيب والمعنى.
الصّدق هو أن تكون القصيدة صادقة في التّعبير عن ذات الشّاعر، وأن تكون القصيدة صادقة من الناحية التّاريخية، فإذا قصّت خبرًا أو أسطورة ينبغي أن يكون صادقًا صحيحًا.
من الصّدق أيضًا الصّدق الأخلاقي، فإذا أراد الشّاعر أن يمدح أو يذم فلا ينسب البخل للكريم، ولا الكرم للبخيل، وكذلك أيضًا لا ينسب الشجاعة للضعيف الجبان، ولا ينسب الجبن للقوي الشجاع، فالصّدق الشّعري يقضي على المسافة بين ما يفعله الشّاعر ويقوله.
أمّا الكذب الشّعري فهو المبالغة والغلو في المعاني الشّعريّة أو في المشاعر أو نقل الواقع نقلًا محرّفًا، فإذا ما أراد الشّاعر أن يتطرّق إلى موضوعٍ معيّن حسّنه وجمّله بلفظه الشّعري كما يرغب هو، وليس كما هو واقعه.
كذلك إذا أراد الشاعر أن يمتدح شخصًا بالغَ في ذلك حتّى وصل حدًّا ليس موجودًا بالشّخص الممدوح، وكذلك أيضًا إذا ما تناول أمرًا ليس له تجربة به فإنّه يتصوّر مشاعر وأحاسيس، ويختلق أشياء من خياله لم يعشها، كل هذا هو شيءٌ من الكذب الشّعري.
موقف النقاد من قضية الصدق والكذب
لم تظهر قضيّة الصّدق والكذب الشّعري إلّا في وقتٍ متأخّرٍ في الدّراسات النقدّيّة، فقد ظهرت بعض ملامح هذه القضيّة في القديم، إلّا أنّها لم تظهر على دراسات وأبحاث كما في الوقت التالي، وأوّل إرهاصات هذه القضيّة كانت عندما سمح الخليل بن أحمد أن يكذبوا كيفما يشاؤوا في شعرهم.
أعذب الشعر أصدقه
أخذ مجموعة من النقّاد بمقولة أعذب الشّعر أصدقه ، ووجدوا أنّ الصّدق هو طريق الشّعر، ومن النقّاد الذين اتّجهوا هذا الاتّجاه:
ابن طباطبا العلوي (250هـ - 322هـ)
ابن طباطبا العلوي هو أوّل من تطرّق إلى قضيّة الصّدق والكذب الشّعري ابن طباطبا العلوي، وقد جاء الصّدق عنده بمعانٍ ودلالات كثيرة، منها الصدق عن ذات النفس، وهو ما يسمّى بالصّدق الفنّي والذي يقوم على نقل التّجربة الشّعريّة كما هي بصدق وأمانة دون زيادة أو نقصان.
أيضًا لديه الصّدق التاريخي والصّدق الأخلاقي الذي يظهر في شعري المدح والهجاء والذي ينبغي بهما أن ينقل المادح صفات وأخلاق الممدوح كما هي دون مبالغة أو زيادة، وهناك أيضًا صدق التّشبيه، وصدق التجربة الإنسانيّة بشكل عام.
قدامة بن جعفر (275هـ - 337هـ)
شجّع قدامة بن جعفر على المبالغة في الشّعر، وذلك أخذًا بما جاء عن الأقدمين، لكنّه وضع حدودًا لتلك المبالغة، حيث رأى أنّ أجود القول وأبلغه ما كان فيه غلوٌّ، أمّا الآمدي فقد كان رأيه مشابهًا لما جاء عن ابن طباطبا العلوي، ولكن أضاف عليه اهتمامه بالاستعارة.
الآمدي (ــ 371هـ)
هو الحسن بن بشر الآمدي، وقد رفض مقولة "أعذب الشّعر أكذبه" وقال إنّ أعذب الشّعر أصدقه وليس أكذبه، فدعا إلى الصّدق الفنّي في الشّعر، وقد ظهرت بعض الأقوال للآمدي التي لُمِح فيها شيئًا مناقضًا لما جاء في رأيه من صدق الكلام، وذلك في تعليقه على قول بُزَرْجُمُهْرَ.
في الحقيقة كان الآمدي يقدّم صدق المعنى على الكذب، ولكن بشرط أن يكون في الكلام حسن تأليف وحسن تلخيص واستعمال المجاز والمبالغة، وبذلك يكون الآمدي قد دعا إلى التّجديد في الأساليب الفنيّة مع المحافظة على المعاني.
أعذب الشعر أكذبه
كان لبعض النقّاد اعتقاد وإيمان بمقولة "أعذب الشعر أكذبه"، ولكنّ كلّ منهم يراها بحسب وجهة نظره، ومن هؤلاء:
ابن رشيق القيرواني (390هـ - 456هـ)
هو الحسن بن رشيق القيرواني، لم يذكر ابن رشيق القيرواني الصّدق أبدًا في حكمه، بل ذكر أنّ من فضائل الشّعر الكذب، فالكذب بالرغم من عدم استحسان الناس له في الحياة وإنكارهم له إلّا أنهم قد اجتمعوا على حسنه في الشّعر.
استدلّ بذلك بما جاء عن كعب بن زهير بن أبي سُلمى -رضي الله عنه- عندما أنشد قصيدته للنبي محمّد -صلى الله عليه وسلم- قائلًا:
بانت سعاد فقلبي اليوم متبول
:::متيّمٌ إثرها لم يُفد مكبول
فالمتبول هو من ذهب عقله، والمكبول هو المقيّد؛ فمع أنّ هذا الكذب الشّعري قد ظهر في شعر كعب إلّا أنّ النبي -صلى الله عليه وسلم- لم ينكر عليه ذلك، بل أعطاه بردته وتجاوز عنه.
أبو سنان الخفاجي (423هـ - 466هـ)
هو عبد الله بن محمد بن سعيد بن سنان الخفاجي الحلبي، تطرّق أبو سنان إلى هذا الموضوع في كتابه "سر الفصاحة" ولكن لم يذكر خلاله لفظي صدق الشّعر وكذبه، إنّما تحدّث عن الغلو والمبالغة والإحالة، فيرى أنّ المبالغة والغلو في المعنى هو أمرٌ مُختَلفٌ فيه.
أشار إلى أنّ مِن الناس من حمد الغلو والمبالغة، واستدلّ على ذلك بقول النابغة عندما سئل عن أشعر الناس، فأجاب بأنّه من كان كذبه جيدًا، ورديئه مضحك، ومنهم من رفض الغلو والمبالغة التي تخرج إلى الإحالة، وذلك على نحو قول الشّاعر أبي نواس:
وأخفتَ أهلَ الشّركِ حتّى إنّه
:::لتخافك النّطف التي لم تولد
البيت السّابق فيه من المبالغة ما يصل حدّ الاستحالة، وهذا النوع من المبالغة قد رفضه بعض النقّاد لما فيه ابتعاد عن الواقع، وقد ذهب أبو سنان الخفاجي مذهب من استحسن المبالغة والغلو، ولكنّه فضّل استخدام الألفاظ مثل "كاد" وغيرها للتقريب من الواقع، وذلك على نحو قول البحتري:
أتاك الربيعُ الطّلقُ يختالُ ضاحكًا
:::من الحسن حتّى كاد أن يتكلّما
أبو هلال العسكري (308هـ - 395هـ)
هو الحسن بن عبد الله بن سهل بن سعيد العسكري، وجد أبو هلال العسكري وصرّح في كتابه "الصناعتين الكتابة والشّعر" أنّ الشّعرَ في معظمه قد بني على الكذب، وذلك لأنّ الشّعر الجاهلي لو نظر إليه وهو أجود أنواع الشّعر على الإطلاق، فإنّه مليء بالصّفات الخارجة عن المعتاد، وكذلك فيه كثيرٌ من الأفعال والأمور التي لا تتّفق مع الواقع.
أيضًا في هذا الشّعر قذف للمحصّنات وشهادة زور، ولكن مع ذلك كلّه يُعدّ من أفضل الشّعر وأجوده، فالشّعر لا يراد منه إلّا حسن اللفظ وجودة المعنى، والصّدق ليس شرطًا رئيسًا فيه.
حازم القرطاجني (608هـ - 684هـ)
هو حازم بن محمد بن حازم القرطاجني، ذكر القرطاجي الكذب في آرائه النقدية، فوجد أنّ أجود الشّعر هو ما برع فيه الشّاعر في إخفاء كذبه، وما قويت شهرته أو صدقه، وما حسن تعبيره وهيأته، وأسوأ الشّعر ما كان كذبه واضحًا، وما كان قبيح تعبيره وهيأته، وما كان واضحًا خاليًا من الغرابة.
فالّذي وجدت به هذه الصّفات لم يعد شعرًا وإن كان كلامًا موزونًا.
عبد القاهر الجرجاني (400هـ - 471هـ)
هو عبد القاهر بن عبد الرحمن بن محمد الجرجاني، وقد وقف موقفًا وسطًا بين الاثنين؛ فقد وفّق بين الصّدق والكذب في الشّعر، حيث جاء في كتابه أسرار البلاغة بأنّه من قال إنّ أصدق الشّعر أكذبه فإنّه قد لجأ إلى الصّنعة والتخييل في أشعاره.
وجد في طريق المبالغة والتّهويل فضاءً واسعًا لتوليد معانٍ جديدة، فتراه يذهب مذهب المبالغة في جميع الأغراض الشّعريّة، من مدح وذم ووصف وبث وفخر ومباهاة، وغير ذلك من المقاصد والأمور، فيلجأ الشّاعر إلى هذه السّبل لتحسين شعره وتجوديه.
أمّا من قال أعذب الشّعر أصدقه فقد ترك المبالغة في الشّعر واتّجه نحو الحقيقة وتصوير الواقع كما هو دون أية إضافات، وذلك لأنّ هذا الصّدق الشّعري لدى من قال به أكثر فائدة وأعم، وبذا يكون عبد القاهر الجرجاني قد وفّق بين الصدق والكذب الفنّي.
أقسام الصدق في الشعر
ينقسم الصدق في الشعر -كما يرى بعض النقّاد- إلى صدق أخلاقي وصدق فنّي، وفيما يأتي تفصيل المُصطلحَين:
الصدق الأخلاقي
ويقصِد هذا النوع من الشّعر ذلك الشّعر الذي يقوم على الصّدق المطابق للواقع، فينقل الواقع كما هو دون زيادة أو نقصان بأمانة وصدق، وهنا الشّاعر لا يتقيّد بصدق المشاعر فقط، بل يلتزم بصدق المشاعر إلى جانب الصدق في نقل الواقع أيضًا.
هذا النقل الحرفي يتطلّب كتابة الشّعر ونقل الواقع كما هو، لكنّ هذا الأمر قد يفقد الشّعر أحد مقوّماته الأساسيّة وهو عنصر التّصوير، فإذا كان الصّدق الأخلاقي يقوم على نقل الواقع كما هو، فإنّ ذلك يمنع من استخدام عنصر التخييل لما فيه من مبالغة وغلو، وهذا يتنافى مع طبيعة الشّعر، إذ إنّ الشّعر يقوم على التصوير والتخييل معًا .
الصدق الفني
إنّ الأصل في كل إبداع فنّي هو التّجربة الإنسانيّة؛ فالفن ينقل ما يجول في الواقع من أحداث وما يرافق هذه الأحداث من مشاعر، فالفنُّ هو مرآة للحياة الإنسانيّة، وقد يكون الشّاعر لم يعشها إنّما رآها أمامه فتمثّلها، وأكثر الشعراء العرب يسيرون في هذا الطريق قديمًا وحديثًا.
هنالك كثيرٌ من الشّعراء ممّن رثوا ميتًا لا يتّصل بهم بصلة، ومنهم من قال شعرًا في النساء ولم يحب قط، لكنّه استطاع أن يقنع بشعره من يسمعه، والصّدق الفنّي لا يعني أن يكون ما يتحدّث عنه الشّاعر قد كابده وعايشه على أرض الواقع؛ إذ من غير الممكن أن يعيش الشّاعر مختلف أنواع المشكلات والأمور.
بل يعيش الشّاعر جزءًا منها فقط، ويشهد جزءًا آخرَ، والصّدق الفنّي للشّاعر يكون عندما تكون التجربة الفنيّة للشّاعر مطابقة لمشاعره ولما يعيشه من أحاسيس، فالتّجربة من وجهة نظر الأدب هي الغوص في الأشياء والنفاذ إلى صميمها والكشف عن خباياها والإحساس بها.
أقسام الكذب في الشعر
في الشعر ينقسم الكذب إلى قسمين شائعَين كما يرى كثير من النقّاد، وهما الكذب الفني والكذب الإيهامين وتفصيلهما كما يأتي:
الكذب الفني
هو أن يكون النص الشّعري مخالفًا للواقع؛ أي: ينقل الواقع نقلًا محرَّفًا، وهو ذكر المعاني محسّنة ومجوّدة لا كما هي على أرض الواقع، فلو أراد الشّاعر -مثلًا- أن يصف فإنّه يبالغ في وصفه، وإن أراد أن يمتدح ذكر صفات بالممدوح ليست فيه، و إن أراد وصف المحبوبة بالغ في وصفها ، وذكر من الخصال ما ليس فيها.
كذلك إذا أراد أن يعبّر عن أمرٍ ما لم يعشه ادّعى ذلك، ففي حالةٍ شعوريّة معيّنة، وبينما يصف الشّاعر أمرًا ما، تنتابه مشاعرٌ تدفعه إلى وصف شيء أو تصويره كما هو موجودٌ في مخيّلته، وليس كما هو في الواقع.
هذا الوصف يدفع الشّاعر إلى إدراج الوصف كما يراه، فيبالغ في تصويره ويحسّن من صورة ما يصوّره، حتّى يظهر في صورة شيء واقعي، وهنا تبدأ الأحكام بين من يقبل هذا الكذب وبين من لا يقبل هذا الكذب الفنّي.
الكذب الإيهامي
هو نوعٌ من التّأليف الذي يقوم على الإبهام الإغراب والتّهويل، يقصد الشّاعر من ورائه تضليل القارئ في طريق وصوله إلى المعنى المراد، فيخفي المعنى المراد في ظِلال المعنى الظّاهر غير المراد، وقد أطلق على هذا النوع أسماء عدّة، فقيل: الغلو والمبالغة والامتناع، والاستحالة والتناقض.
يهدف هذا النوع من الشّعر إلى الإفراط في التّهويل في المعنى بغية تجويد المعنى وتحسينه دون النظر للذوق الجمعي العام تجاه هذا النوع من الشّعر، فالإفراط والغلو يبقى مقبولًا ما لم يقع في الإيغال والتوعّر والإغراب في القول الذي يندرج تحت الاستحالة والتناقض اللذَين يرفضهما الذّوق العام.
كلّ هذا الذي سبق إذا توفّر في الشعر فإنّه قد يجعل الشعر غير مفهوم بالنسبة للمتلقي، ومتى أصبحت ألفاظ الشعر حوشيَّةً غريبةً بعيدةً عن المتلقي فإنّ الشعر يكتسب صفةً سيئةً وينبذه الطّبع السّليم.